كيف يمكن للباحث أو المفكر العربي أن يتخذ موقفا نقديا ضد الفكر الغربي، بينما أدواته الفكرية والمنهجية تنتمي انتماء جذريا لهذا الفكر وتاريخه؟ أليس من التناقض الصارخ أن نقوم بنقد الفكر الغربي من خلال مناهج وتصورات هي من صنع الغرب نفسه، وكأننا لا نملك من وظيفة النقد سوى تأكيد ما هو مؤكد على ألسنة وخطابات المفكرين والفلاسفة الغربيين أنفسهم؟. حتى على افتراض القول أن هناك من الباحثين العرب الذين تنبهوا لمثل هذه الأزمة، وحاولوا الخروج منها باقتراح مشاريع تنويرية تترصد فيه مسارا مزدوجا في النقد بين نقد الذات ونقد الآخر في ذات الوقت. على سبيل المثال، هذا ما يطرحه عبدالكبير الخطيبي، أو طه عبدالرحمن أو غيرهم من المفكرين العرب. إلا أن مثل هذا القول لا يلغي الأزمة أو التناقض، فالعلوم الإنسانية الموروثة من عصر التنوير الغربي، وما تبع حقولها من توسع وتراكم على مستوى المناهج والدراسات منذ القرن التاسع عشر، وما تلاه في القرن العشرين إذ جاءت تسمية الحداثة لتضم كل هذا التراكم الكبير والضخم، حتى أصبح كل مفكر من العالم الثالث لا يمكنه تجاوز الحداثة الغربية لا على مستوى المنهج أو الرؤية والتصور، وما تثيره من إشكاليات على مستوى المجتمع والتاريخ والسياسة والدين واللغة، وحتى مقولة المركزية الغربية باعتبارها لم تكن سوى من نتاج المفكرين الغربيين أنفسهم، حيث ما يسمى بالفلاسفة ما بعد الحداثيين الذين قاموا بتفكيك كل مظاهر النزعة الأوروبية في الفكر والثقافة والسياسة والمجتمع والموروثة منذ عصر الأنوار، لم يكونوا من خارج أوروبا. لكنهم في ذات الوقت لا يمكنهم أن يقبلوا النقد الموجه للحداثة الغربية من خارج دائرتهم كما فعل سلافوي جيجيك مع غيره من المفكرين من العالم الثالث. الغريب في الأمر أن هناك من المثقفين العرب الذين يتبنون آخر أطروحات وأفكار ما بعد الحداثة دون أن يراعوا السياق التاريخي لتطور تلك الأفكار، ولا إلى أصولها الاجتماعية والثقافية والدينية. فلو أخذنا المنهج التفكيكي على سبيل المثال وحاولنا الاقتراب به من نصوصنا المقدسة، فأنت لا تستطيع القبض على المعنى الراسخ جذوره منذ آلاف السنين، بل في نظر هذا المنهج المعنى مؤجل دائما والإمساك به من رابع المستحيلات، وكأن الإنسان العربي وفق هذا التصور بحاجة إلى مزيد من التشتت والفوضى والتشرذم ليس في حياته الاجتماعية والتاريخية بل وحتى الفكرية. لكن على الجانب الآخر برزت على الساحة الفكرية العالمية مجموعة من الباحثين من العالم الثالث اشتغلوا تحت ما يسمى بالنقد الثقافي، أو نظرية ما بعد الاستعمار على تفكيك مقولات الحداثة الغربية كاشفين من خلاله عن النزعة المركزية المختبئة في أغلب نصوص فلاسفتها ومفكريها ومستشرقيها، مؤسسين في ذات الوقت سردية حداثية انطلاقا من خصوصية مجتمعاتها التي ينتمون إليها مثلما نجد ذلك عند سبيفاك أو هومي بابا وغيرهم الكثير. وقد أدى هذا العمل النقدي الدؤوب إلى مراجعة تلك الأفكار الغربية التي أسرت العالم الشرقي في سجن تصوراتها وكانت بمثابة أساطير مؤسسة لكل ما هو شرقي، وظلت ردحا من الزمن تؤثر على كل دارس أراد فهم مجتمعات العالم الثالث، من قبيل مقولة الاستبداد الشرقي، ومقولة انسداد باب الاجتهاد في الإسلام وغيرها الكثير، ولنا وقفة أخرى معها في مقال آخر.