كثير من الناس يتباكى على أيام الشعر القديم المليء بالرومانسية والصور الشعرية العميقة والكلمات الجزلة، والذي يترك أثراً عميقاً في النفوس، ويتفاوت الناس في فهمه، وربما تستغلق بعض معانيه على أفهام غير المتخصصين أو المتعودين على عباراته. ولّى ذلك الزمان، وولت معه وبعده أيضاً تلك الأغاني، التي كانت تصدح في المسارح العربية في مصر والشام، وربى لبنان، بأهازيج وفنون قلما وجدت في تاريخ العرب، حتى في أوج ازدهار الفن خلال العصر العباسي في بغداد والبصرة والمدينة وبعض المدن الأندلسية. لكن حقبة الأغاني السطحية، التي يُغنى فيها كلام مصفوف ليس من الشعر، ولا من العمق في شيء، قد طغت على كل فن أصيل، فأصبح المجيدون للموسيقى ومن يختار كلمات من كبار شعراء العربية من الفنانين لا يكاد يسمع لهم أحد، أو يهتم بجديدهم، إلا بعض المنظمين للحفلات والنشاطات الفنية ذات المواسم المعدودة، وذلك لأن أغاني الفيديو كليب أصبحت هي السائدة في القنوات الفضائية وفي مواقع بيع الموسيقى على الإنترنت، وفي احتفالات الناس وأعراسهم. لكن شيئاً من الواقعية والبعد البراجماتي أصبح يمثل تياراً في كتابة كلمات الأغاني وأفكارها، بما يتواءم مع طلب الشباب واتجاهاتهم نحو حياة أكثر واقعية، ببعدهم عن الرومانسية والخيال، الذي كان يغرق فيه الشعر العربي القديم، أو أدب النهضة العربية في بدايات القرن العشرين الميلادي. ومن ذلك الاتجاه ما لاحظناه مؤخراً من تكالب على أغنية ظهرت عن «النفسية» (طبعاً بالمفهوم الدارج لهذه الكلمة، الدال على الحالة النفسية أو المزاج)؛ إذ تناوب عدد من الفنانين على كتابة كلمات تدور في فلك وصف الحالة النفسية، وما يحتاج المزاج إليه في الحياة المعاصرة. وكانت إحداها تقول: النفسية محتاجة هدوء شويّة وافصل من الليلة ديّة مع نفسي على انفراد النفسية محتاجة شويّة ليّا وانسى واغمّض عينيّا إنسان أنا مش جماد النفسية محتاجة أسمع أغنيّة تلمس مشاعر فيّا تتكلم على البعاد النفسية محتاجة اسكندرية وتشوف عينيّا ميّة وأقابل ناس جداد النفسية محتاجة ناس طبيعية تقلق وتخاف عليّا مش مليانين أمراض النفسية مش محتاجة لمصالح ولا وقت أزعل وأصالح وأمشي ما ليش اتجاه النفسية ترتاح أول ما متّع روحي يا ما ها تقطع في مفرمة الحياة فهل أصبح مطلب وجود «ناس طبيعية» شيئاً يعز وجوده، ويسعى الناس إلى تمني حدوثه؟ هذا ربما يكون أحد دواعي التأزم في المجتمعات العربية المعاصرة، وقد أصبحت تمثل ظاهرة تدعو للقلق على كون الناس غير مرتاحين مع جيرانهم وشركائهم في بيئة العمل أو السكنى أو حتى علاقات القربى والأصدقاء. إذ أصبحت عبارة «مرضى نفسيين» أو «سايكو»، كما يصفها بعض المتفرنجين هي الوصف الأكثر استخداماً للتعبير عن سلوك الناس في الشارع أو الإدارات، التي يتعامل معها أغلب الناس. لكن كلمات الأغنية معبرة عن النسق، الذي يصف المطالب البسيطة، التي يمارسها الناس منذ الأزل (كالانفراد دون إزعاج والخلوة مع النفس)، بأنها حلم للإنسان العربي البسيط. بل وحتى سماع أغنية أو التمدد على البحر، ومقابلة أناس مختلفين، والبعد عن أصحاب المصالح، أصبح ديدن الإنسان، لينشغل بالزعل تارة، والمصالحة مرة أخرى، ويضيع وقت الإنسان في تلك المعمعة، مما يجعله عرضة لأن يكون قطعة لحم في مفرمة الحياة!.