عندما أعنون هذا المقال ب «السعودية: مملكة الحضارات» لا أبالغ وإنما هي حقيقة دامغة لا يمكن نكرانها، والأدلة على ذلك كثيرة، وأحد الشواهد هو معرض «طرق التجارة في الجزيرة العربية - روائع آثار المملكة العربية السعودية عبر العصور»، الذي يقام حاليا في معرض اللوفر أبو ظبي، والذي يعتبر واحدا من أهم المعارض السعودية العالمية التي قدمت التراث الحضاري للمملكة والجزيرة العربية. فالمملكة ليست طارئة على التاريخ، بل هي مهد لحضارات إنسانية ضاربة في القدم. حاول البعض بقصد أو بجهل تسويق أن الجزيرة العربية لم تنتج حضارة، والأسوأ عندما يصدر هذا الكلام عن أشخاص يدعون العلم. ولهؤلاء نقول إن الجزيرة العربية التي تغطي المملكة العربية السعودية معظم أجزائها موطن للعديد من الحضارات التي ازدهرت داخل حدودها. فالبروفيسور عبدالرحمن الطيب الأنصاري أحد أهم المتخصصين السعوديين في الآثار، يذكر أن هناك أكثر من 30 حضارة في الجزيرة العربية، فهناك حضارات وثقافات فجر التاريخ، وثقافات الأمم الغابرة، وثقافات الممالك العربية المبكرة، وثقافات الممالك العربية الوسيطة، وثقافات الممالك المتأخرة. فعلى سبيل المثال محافظة العلا إحدى محافظات المملكة العربية السعودية، تقع غرب الجزيرة العربية، وتعتبر أهم مواقع التراث الثقافي والحضاري، عاشت واستوطنت فيها أربع حضارات: حضارة ثمود 3000 سنة قبل الميلاد، ثم مملكة دادان ومملكة لحيان (600 ق م- 150 ق م)، ثم مملكة الأنباط (150 ق م- 106 م). وفي جنوب الجزيرة العربية هناك مملكة حمير الأولى والثانية (110 ق.م - 527 م)، وهي مملكة عربية كانت حدودها من أوسان جنوبا إلى نجران شمالا وعمان شرقا إلى عسير غربا، وحادثة الأخدود التي ذكرها القرآن الكريم أشهر معالمها. وفي وسط الجزيرة هناك مملكة كندة ( 200ق.م – 633م)، وهي مملكة عربية، وقرية الفاو التي هي عاصمتها، هي الآن من أهم الاكتشافات الأثرية على مستوى الجزيرة العربية إن لم يكن على مستوى العالم؛ لما تجسده من مثال حي للمدينة العربية قبل الإسلام بكل مقوماتها من مساكن وطرقات وأسواق ومقابر وآبار. فقد كانت مركزا تجاريا مهما وملتقى قوافل تحمل المعادن والحبوب والنسيج. ومن الاكتشافات المهمة في وسط الجزيرة كذلك موقع حضارة المقر القديمة التي اكتشفت حديثا ويعود تاريخها إلى 9000 سنة، وقد عثر فيها على ما يشير إلى رموز الثقافة العربية الأصيلة كالفروسية، والصيد بالصقور، واقتناء كلاب الصيد (السلوقي)، واقتناء والتزين بالخنجر العربي. وقد أثبتت المواد الأثرية المكتشفة في هذا الموقع أن سكان المقر قد استأنسوا الخيول قبل 9000 سنة، وهو يناقض الرواية السائدة بأن الخيل قد تم استئناسه لأول مرة في وسط آسيا قبل 5500 سنة. وأخيرا أعتقد لا بد من ثلاثة أمور لتعزيز البعد الحضاري للمملكة في الداخل والخارج، الأمر الأول التوسع بشكل كبير في أعمال المسح والتنقيب الأثري وبطرق علمية حديثة، وأعتقد أن هيئة السياحة والتراث الوطني تعمل على ذلك من خلال مشاركتها لبعثات دولية متخصصة في الآثار بالإضافة إلى فرق سعودية. الأمر الثاني هو تسويق هذه الحضارة والترويج لها بكل الوسائل وعبر كل الأدوات عبر المعارض الدولية والإعلام وتفعيل السينما في إنتاج كثير من الأفلام عن هذه الحضارات بطريقة مشوقة تصل إلى الجميع. الأمر الثالث هو إدراج التاريخ الحضاري للمملكة في المناهج الدراسية؛ لتكريس الهوية الوطنية وتعزيز حب التراث والانتماء لدى النشء.