منذ وجود البشرية على الأرض كان لا بد للإنسان أن يصرف وقتا لتدبر شؤون حياته، فوحدات السعرات الحرارية، التي تقيم أود الجسد لا تأتي من نفسها، بل لا بد للمرء من السعي للحصول على الطعام وإعداده وتناوله، ليحصل على الطاقة اللازمة للحركة والتفكير وبناء الجسد من أجل الاستمرار في الحياة. لكن لم تكن توجد تنظيمات وقواعد تحكم وقت العمل وشروطه، حيث يُظن أن أسلاف الإنسان القدامى في طور حقب «الصياد» و«الجامع» (الإنسان الأول في غابات أفريقيا وصحاري أستراليا) كانوا لا يصرفون أكثر من ثلاث إلى خمس ساعات فيما نسميه نحن الآن «العمل» (أو الوظيفة)، من البحث عن الطعام وإعداده، وتهيئة المسكن أو (المأوى)، وربما شيئا من اللباس الذي يحمي من تقلبات الأجواء، وصنع الأدوات اللازمة للحصول على الطعام أو الحماية من أخطار الحيوانات المفترسة. وفي بقية اليوم يقضون أوقاتهم في التسلية أو الراحة أو الرقص، بعد تناول الطعام والشراب. لكن النقلة الكبرى المضادة في مفاهيم العمل حدثت في المجتمعات الأوروبية بعد الثورة الصناعية في القرن التاسع عشر الميلادي، حيث بدأ تنظيم العمل، ليكون ستة أيام في الأسبوع بمعدل اثنتي عشرة ساعة يوميا في مصانع غير مرتبة ولا نظيفة، وفي بعض المناجم الخطيرة. ولم تكن النقلة خاصة بكمية العمل فحسب، بل إن الكيفية قد تغيرت تماما، حيث يعبر عنها المثل الإيطالي القديم: «العمل يجعل الإنسان كريما، لكنه أيضا يحوله إلى حيوان»! وربما يشير المثل إلى التفاوت الكبير في شروط العمل لدى المجتمعات البشرية والبيئات المختلفة فيها، حيث يختلف كليا العمل في وظائف عامة كالطبيب الجراح في مستشفى مزودة بكافة التجهيزات، عن أعمال العبودية أو ما يشبهها، التي يقوم بها عمال في ظروف عمل صعبة في الطين، أو المناجم الخطيرة ذات الغازات السامة. فالطبيب لديه الفرصة أن يتعلم كل يوم شيئا جديدا، كما يكتسب مهارات جديدة ورضا عما يحققه في عمله، بينما يكون العامل مجبرا على أداء العمل نفسه كل يوم، وتكرار الحركات المجهدة، كما أنه يدرك كل يوم مدى قلة الحيلة لديه. وفلسفات العمل كونية في ضرورتها وعموميتها، لكنها بالطبع تختلف من بيئة إلى أخرى، كما يتوقف الرضا عن طرقها المختلفة على فكرة ممارس العمل وتوقعاته بشأن كون ممارس العمل يحس بالسعادة من خلال وظيفته أو ما يقوم به من عمله الرئيس أم لا، وفيما إذا كان يراها طريقة مناسبة للمعاش. فقد طرح فكرة التلازم بين الشخص ووظيفته ضمن فلسفة العمل منذ زمن طويل توماس كارليل بقوله: «مبارك من يحصل على عمل يناسبه، ويجدر به ألا يبحث عن البركة في مكان آخر». كما وسع سيجموند فرويد هذا الاتجاه في معرض حديثه عن وصفة السعادة بإجابة موجزة، لكنها معبرة، إذ قال: «العمل والحب». وهو محق في هذا الاختزال، لأن الإنسان إذا حصل على عمل يرتاح فيه، فإنه يحسن من مستوى جودة الحياة لديه. كما يرتفع عنده تقدير الذات، إذا كان قادرا على إرساء علاقات جيدة قائمة على الحب مع الآخرين، وكل من هذين الجانبين ينعكس إيجابا أو سلبا على الآخر. وفي الجزء التالي نتعرض إلى الفلسفات ذاتها بعد أن تعقدت في عصرنا الحاضر.