هناك أبناء مهما فعلوا لا يُغضب عليهم بينما إخوتهم لا يسمح لهم ما سمح لغيرهم. فمثلا، حصل والدي على فرصة الابتعاث لدراسة الطب في النمسا ووضع جدي وجدتي أمام الأمر الواقع وسافر بالفعل وأكمل دراسته. بينما بعد سنوات حصل عمي على بعثة للدراسة في أمريكا ليشاور جدتي التي لم توافق على سفره - رغم تشجيع جدي - فعدل عن الأمر ودرس في الرياض. كلاهما حصل على فرصة ولكن أحدهما اغتنمها دون سؤال والآخر شاور فلم ينل ما يرغب سعيا في رضا والدته. هذا المثال يحيرني كثيرا فأيهما الأصح؟ أو هل هناك صح أم خطأ أصلا في مثل هذه الأمور؟ في مجتمعنا يغلب تغييب رأي صاحب الشأن. عدد كبير من الناس لا يملك قرار نفسه ولا رأي له في مصيره لأن عائلته تنوب عنه في القرار. من يتزوج وماذا يدرس والوظيفة المثلى وغيرها. التدخل في شؤون الغير أصبحت عادة في المجالس بصيغة نصائح لا تنتهي يكون ختامها «طيع شوري». هل تعتبر هذه التدخلات انتصارات شخصية لمن لم يستطع أن ينتصر لنفسه؟ تقول جريس هوبر (Grace Hopper) الضابطة في البحرية الأمريكية والتي كانت من أوائل مبرمجي الحاسب الآلي: «إن كانت الفكرة جيدة، فنفذها. من الأسهل بكثير الاعتذار، من الحصول على الإذن.» تعجبني فلسفتها والتي تحمل في طياتها حس المجازفة والثقة في النفس والفكرة. قد تكون مناسبة في حالات تتعدى فيها رؤية صاحب الفكرة خيال وعلم الناس من حوله لدرجة أنه لا فائدة من مشورتهم. فلو تمت المشورة لن يروا إلا صورة قاصرة ولذلك لن يستطيعوا المساعدة في تقديمها. عكس الانطلاقة التي يلحقها اعتذار هو نهج الشورى وهو من المبادئ الإسلامية والتي سُميت بها أحد سُور القرآن، ونهج انتهجه المصطفى - عليه الصلاة والسلام - مع الصحابة. أحيانا أسأل مجموعة من باب الاستشارة، ليس لأنه لا يوجد لدي حل ولكن لأنني أستمتع بسماع آراء غيري وقد أتعلم منها كوني قد لا أحيط بكل الجوانب. أجِد وضع الاحتمالات المتعددة واختيار أفضلها بعد التمحيص شيئا مهما في العمل الجماعي. فالتفكير والتحليل مهارة وثقافة لا تعيش في بيئة إدارية مستبدة. ولكن حتى الشورى ليست مثالية كونها محفوفة ببعض المخاطر. قد أطرح مسألة لأجد إحداهن ترد الرد القاطع وتطلب الانتقال إلى النقطة التالية. من شدة الثقة بتلك الإجابة والحزم في الطرح لا يتجرأ بعدها أحد على طرح البديل. لذلك ما زال أمامنا بعض العمل لنعلم كيفية تطبيقها. الجانب السلبي هو أن من يسأل يبدو ضعيفا إما لأنه «لا يعرف» - وإلا لما سأل - ولأن تقليب وجهات النظر لاختيار أفضلها قد يبدو كأنه صعوبة في اتخاذ القرار وافتقار للحسم. لكل منهج مزاياه ومواقفه المناسبة. ما زلت أرى أنه لا يوجد طريق واحد فقط صحيح. لا ضير من الاستشارة ومن ثم الخوض حسب الاختيار الشخصي وإن لزم الأمر يبقى الاعتذار.