لم تعُد نظم التعليم الحديثة ترتكز فقط على المادة العلمية المُتضمنة في داخلها فحسب، بل صارت واعية بارتباط نجاحها بما تتضمنه آلياتها من وسائل وأدوات تقيس بها تطور الطلاب وتقدمهم من عدمها. إن قياس اتجاهات الطلاب ومستويات تجاوبهم مع ما يُدرّس لهم من شأنه أن يسمح للمنظومة بأن تتمدد أو تتضاءل لتناسب الطالب وتوفر له المساحة التعليمية التي يمكنه فيها أن يدرس بشكل جيد يتحسن فيه ويصل معه إلى ما هو مأمول له، وكل ما سبق متوقف على مستويات المرونة المتاحة في هذه النظم، المرونة التي تحترم فردية الإنسان وخصوصيته المفترضة عمن حوله من زملائه. إن تطبيق نظم التعليم المرنة التي تراعي قياس اتجاهات الطلاب الفردية والتعليمية صار أمرًا لابد منه في عالمنا العربي، ربما لن نتقدم كمجتمع وكدول إلا حينما نعمد لتخريج دفعات متخصصة من الطلاب، دفعات تتوجّه إلى تخصصها بالدراسة والتركيز منذ سن مبكرة؛ الأمر الذي يصير معه الطالب مرتبطًا بمجاله محبًا له عالمًا به وبكل دروبه، لا شك في أن كل هذا كفيل بصناعة الفارق بالنسبة لكل مجالات العمل التي سيلتحق بها هؤلاء الطلاب في مستقبل أيامهم، فمن يحب عمله وتخصصه مختلف تمامًا عمن التحق به هكذا كما اتفق. يبرز في هذا الاتجاه دور الأقسام التربوية والنفسية في المنظومة التعليمية، حيث الإرشاد الطلابي والتناغم النفسي بين الطالب ومؤسسته كفيل بالكشف عن اتجاهه ورغبته المهنية منذ وقت مبكر، وبالتالي توجيهه على الأقل إلى المسار التعليمي السليم الذي يجب أن يتبعه، فهناك مَن تؤهّله إمكانياته ونفسيته لخوض تجارب عملية علمية وهذا مناسب له ربما مجال الكليات العملية العلمية، وهناك مَن يحمل في نفسه حسًّا مرهفًا وموهبة أدبية مميّزة، وهذا مناسب له بالتاكيد المجالات الأكاديمية الأدبية، وهناك مَن هو مهتم بالابتكار والعمل العملي المباشر وهذا مناسب له ربما المعاهد العملية والمهنية المتخصصة، وهكذا تتنوّع الاتجاهات في نفوس الطلاب، وعبر هذا التنوّع ورعايته منذ سِنّ مبكرة يمكننا بناء مجتمع أعمال متماسك ومُحكم يضيف إلى وطننا ويُعلي من قدره إلى حيث نتمنى جميعًا. للأسرة كذلك دور مهم في استكشاف اتجاهات أطفالها وأبنائها، فالأم هي أكثر العالِمين بابنها وبما يُحبه ويتمناه؛ لذا عليها وعلى الأب مسؤولية كبيرة في تنمية قدراته ضمن مساحاته التفضيلية فذاك مُفض إلى نتائج مبهرة بكل تأكيد. وعلى جانب آخر تبرز مشكلة كبيرة تقع فيها كثير من الأسر، نعني بها الوصاية التامة على الأبناء والحجر التام على آرائهم وأحلامهم وتوجيههم رغمًا عنهم إلى مسارات تعليمية ومهنية ربما لا يودونها، إن ذلك له تأثير سلبي كبير على نفسية الأبناء ومستقبلهم المهني، حتى إذا أُتيحت لهم الفرصة للنجاح الأكاديمي فسيظل الإرغام الأسري لهم على سلوك طريق بعينه عائقًا لهم عن الابتكار وتأدية أعمالهم بحب وإخلاص، وذلك مؤثر بالتأكيد على المنظومة المهنية والمجتمعية بشكل عام.