قنوات التواصل الاجتماعي بين الحين والآخر بمقاطع مصورة لحوادث وأحداث -مما يدور في فلك أمن وسلامة المجتمع وأفراده صحيا أو أخلاقيا أو سلوكيا أو دينيا- يتم تداولها دون تمحيص أو تحرٍ أو حتى مراعاة لحرمة أو خصوصية الطرف المشارك في الحدث.. حيث تطير الوسائط الإعلامية في تلك الشبكات به في الآفاق، بلا تنقيح.. ولا حتى تمليح.. فلا نزاهة في نقل الحدث ولا حتى تلميع لصورة الموقف أمام العالم المأسور بأجهزته الذكية المشدوه أمامها والمحدق في شاشاتها على مدار الساعة.. فحتى الأطفال والأحداث باتوا صناعا لمحتويات إعلامية فارغة.. وبرعوا في تصوير تفاصيل بيوتهم وبثها للعالم بكل زهو وفخر.. ألا ترون معي أنها ظاهرة باتت تحتاج منا لإعادة نظر في تربية وتثقيف مجتمع بأسره إعلاميا وأخلاقيا؟! هتك الأستار والتبجح بتصوير الحوادث المزرية والمواقف المحرجة والأحداث المخزية والتباهي بذلك بل والتسابق للنشر.. أضحى ثقافة لا تشجب ولا تستنكر -مع بالغ الأسف- بل ولا يساوم عليها أحد.. يتبارى جماعة من الناس في تصوير المواقف على حين غرة.. غير آبهين بمشاعر الآخرين وخصوصياتهم.. ولا الحكم الشرعي في ذلك وأين نحن ممن قال: (ليكن حظ المؤمن منك ثلاثا: «إن لم تنفعه فلا تضره، وإن لم تفرحه فلا تغمه، وإن لم تمدحه فلا تذمه») [صفة الصفوة (2/292)]؟! وما موقعنا في خارطة السلوك الإنساني مما قاله ابن القيم -رحمه الله تعالى-: «المؤمن يتوجع لعثرة أخيه كأنه هو الذي عثر بها، ولا يشمت به» [مدارج السالكين (436/1)]. بل وهل توقفنا هنيهة وتساءلنا ما الحكم الشرعي فيما نأتي ونذر من هذه الوسائط التقنية التي تبث السقطات وتنشرها لأصقاع المعمورة في ثوانٍ معدودة. وقد قال العلامة ابن عثيمين -رحمه الله-: «لا يجوز لإنسان أن يلتقط صورة أحد إلا بإذنه حتى لو كان يعرف أن هذا الرجل يقول بجواز التقاط الصور» [شرح البلوغ (329/15)]. ناهيك عما يترتب عليه ذلك من إيذاء لمشاعر الآخرين ونشر للرذائل والقبائح والعيوب بل وربما إشاعة للفواحش في المجتمع، وحين يناقش المعني في ذلك يجيبك بسلامة مقصده وهو تحذير عامة الناس من هذا المنكر!! وأين سلامة المقصد والنية مع سوء التصرف وقبح السلوك؟! فهنا يتم تصوير عملية تحرش بطفل أو طفلة (أو ما يُظن أنه تحرش) وهناك يُلتقط مشهد مؤلم لتعنيف أو إيذاء أو ربما شيء من الدموية والإرهاب.. وثالث يصور مشهدا لطالبة بالغة تقف على سطح مدرسة غير مبالٍ بحرمة كشف العورات وفضحها، وهناك من تصور عاملة منزلية تسقط من هاوية بدلا من محاولة إنقاذها.. وآخرون يتناقلون مشاهد يتورع القلم عن حكايتها أيام الاختبارات وفي أعقاب الانصراف من المدارس عبر دهاليز البيوت وبين أزقتها.. ثم يتم استعراض تلك القبائح في وسم في (تويتر) يصل لدرجة ال(ترند)..عبثا دون تأنٍ أو تفكير في مآلات الأمور وعواقبها التي تسيء لمجتمع بأكمله وتشوه صورته في العالمين وتظهره بمظهر الهمجية والوحشية والإسفاف والابتذال.. فأين صدق النوايا وسلامة المقاصد في الارتقاء بالمجتمع والحفاظ على تماسكه وحراسة الفضائل فيه وتصحيح السلوكيات الخاطئة بأساليب تربوية راقية؟؟!! هل من السلامة في شيء أن يتم نشر صور للوحة سيارة عابرة يدعي ناشرها أنه تم التحرش بأطفال داخل السيارة وعلى من يشاهد السيارة عمل اللازم؟!! أين حرمة البيوت وخصوصيات أهليها؟! ألم يكن هناك وسائل أجدى وأنجع للتعرف على ما حدث بمصداقية واتخاذ الإجراءات اللازمة حيالها عن طريق التواصل المباشر مع الجهات الأمنية بدلا من (نشر الغسيل)؟! هل من الإنسانية في شيء أن يتم تصوير آدمي أو بهيمة يتأذى أو يتألم أو يحترق أو يغرق أو يعاني أو يهاجمه أحد دون أن يحرك ذلك في المصور ساكنا وكان من الممكن والأجدر به أن يتولى عملية الإسعاف والإنقاذ في وقتٍ الثانيةُ فيه هي أنفس من الدهر؟! (طبعا يخرج من ذلك ما يدور في مناطق الحروب والنزاعات).. مجتمعنا اليوم -في عصر الإعلام الحر والفضاء المفتوح- هو في أمس الحاجة لإعادة تأهيل إعلاميا وقيميا، ونحن كمربين في ميدان التعليم ننادي بضرورة طرح مقررات (التربية الإعلامية الناقدة) كمناهج دراسية منذ المراحل الابتدائية التأسيسية وحتى الجامعة.. فتوطين الناشئة على القيم والأخلاقيات الإعلامية وضوابط ومهارات التعامل مع وسائل الإعلام يحتاج زمنا طويلا وجهدا عظيما وتعاونا مشتركا بين كافة الجهات والمؤسسات التربوية والإعلامية والدينية والمجتمعية.. في عصر التحديات والمتغيرات الثقافية التي يصدق فيها قول القائل: فلو ألف بانٍ خلفهم هادم كفى فكيف ببانٍ خلفه ألف هادم.