«الإسلام في عصر العلم» من مُجَلَّدَيْن، ومطبوع في عام 1350ه الموافق عام 1932م هو خير دليل على ما كان يستهدفه من عرض الإسلام لأبناء الأمة الإسلامية كما نزل من معينه الصافي، وبما معناه تنقية الإسلام من شُبَهِ الأعداء الحاقدين، وعَرْضِها في نسق علمي يقبله العقل، ولدى تصفح الكتاب تجده يدور في فلك إستراتيجية محددة وهي كيف نفهم الإسلام شريعةً صالحةً للإصلاح والحكم؟. وليس الغرض هنا استعراض موضوعات الكتاب، وإنما اقتطاف أربع فقرات منه للتنويه عن معينٍ لم ينضب يَغْرِفُ منه «محمد فريد وجدي» للتبصير بحقيقة الإسلام في عصر العلم. الفقرة أولى: قال «وجدي» في كتابه عن منهجه ما يلي: «أمَّا بعد، فإني استخرتُ الله تعالى في وضع كتاب ضخم كبير الحجم أُضمنه موجز أبحاثي في المواضيع الفلسفية التي لها علاقة بالإسلام خصوصًا، وبالدين المطلق عمومًا، وأُريد من هذا العمل الشاق إِقامة صرح مشيد للدين الإسلامي في هذا العصر الذي اشتهر بزعزعة أركان الأديان، وهدم صروحها، وتقويض أساطين المعتقدات، ونسف قصورها، وسأتوخَّى إن شاء الله في بناء هذا الصرح تسخير ذلك العلم الهادم للعقائد غير ذاهب بمدركاته مذاهب التعسف والتأويل، ولا ناهج بمقرراته مخالج التكلف والتحريف. ولكنني سأسير معها سيرها الطبيعي، وأسلكها مسلكها التحليلي ولم لا يتفق العلم والدين ويكون الأول مؤيدًا للثاني، وناصره وحاميه من شائبات الشكوك وموازره، ما دام العلم منتزعًا من أشياء الكون والدين من وحي خالقه؟ وهل يعقل أن يكون وحي سماوي مخالفًا لوضع طبيعي وكلاهما مستمد وجوده من خالق واحد تتنزه أفعاله عن التناقض، وتتعالى إفاضاته عن التعارض؟ بل الذي يخشى صولة العلم، ويتهيب سطواته، رجل يريدُ أن يعطف حقائق الكون على خيالاته، وأن يرى نواميس الوجود مطابقة لوهمياته، هذا هو الذي يرى العلم عدوًا لَدودًا، فيصد عنه صدودًا، ويكون أمامه حيوانًا شرودًا. هذا هو الذي إن ذُكِرَ العِلم بحضرته عبس وبسر، وأدبر واستكبر، وقال إن هذا إلاَّ قول البشر. أما المسلم فمتى عهدناه أحجم عن العلم، أو تهيَّب وُروده؟ وأنَّى رأيناه صدف عنه، وخاف بطشه؟ العلم في كل عصر ظهير الإسلام ومؤيده، وناصر تعاليمه ومعضده. لم يسقط المسلمون إلى ما هم عليه الآن إلاَّ بلويِهم عن العلم كشحًا، وضربهم عن الخوض في مناحيه صفحا. ألم تر أن في كل دور من أدوار العلم كتبًا للمسلمين اتخذت أرقى مدركاته سلاحًا للدفاع عن الإسلام وتأييده، وجعلت أعضل مسائله آلة لتشييد صرحه وتوطيده؟ فما الأشعري وابن تيمية والغزالي وغيرهم إلاَّ من فرسان تلك الحقبة، وأعلام ذلك الميدان، وقد فازوا وفاز من اقتدى بهم في كل عصر على أعدائه فوزًا ليس بعده مطلب للمزيد. فلماذا لا يكون هذا العلم نفسه في هذا العصر الأنْور جاريًا على سنته الطبيعية التي سارها مع الإسلام في كل عصر سابق»؟ الفقرة الثانية: قال «وجدي» عن محمد بن عبدالله -صلى الله عليه وسلم- الرسول الأمي إلى البشرية جمعاء ما يلي: «فإن قال قائل بأن الشرقيين ميتون، أو أنهم لهذا الشكل البديع من المدنية لا يصلحون، أو أن دورهم انقضى ونجمهم أفل، فكل ذلك كلام يصح أن يكون شِعرًا لا عِلما، وخيالاً لا حقيقة، ولا يجوز لمسلم دستوره القرآن أن يصدِّقه فإنه يحرم عليه ذلك؛ بل ربما أدَّاه اعتقاده ذلك إلى الكفر، فإنه اليأس بعينه، واليأس والإسلام لا يجتمعان في قلب رجل. كيف ييأس مسلم يعرف أن واضع مجد هذه الأمة بأسرها، وباني أسس عظمتها التي أدهشتِ العلم كله، ولم تزل تدهشه حتى اليوم، رسولٌ قام بلا جند ولا مال، ولا أعوان ولا أنصار، في وسط أمة لم تعرف للمدنية اسما ولا معنى، ولم تستأهل بسبب قحولة أرضها، وحالة حياتها إلى شيء من الرقي الاجتماعي مطلقا، والدليل على ذلك أنها لَبثت فيما كانت فيه من يوم وجودها لِيوم البعثة بدون أقل تغير في شؤونها، ولا تَرَقٍ في أمورها، فلم يلبث فيها زمنًا قصيرًا حتى نهضت نهضة لو رام الشاعر لها من عالم الخيال صورة تحاكيها لضاق سعة أرجائه ضيقًا يرى معه أن الحقيقة لو تجلَّت في كمالها لأغنته عن تكلف الأكاذيب، ولا اغتنت هي بذاتها عن كل تفخيم وتجسيم. فالمسلم إذا تدبَّر في هذه الحادثة التاريخية وحدها يصبح وفؤاده مملوء أملاً ورجاء بأن حياته مرتبطة بذلك الإكسير الأعظم، والدواء المكرم، الذي حمله إلى العالم ذلك الرسول الأعظم محمد -صلى الله عليه وسلم- وأنه لو أدرك سره وتركيبه وتعاطاه كما تعاطاه من قبله آباؤه الأولون لم تضره المزاحمات التي تُحيط به من كل جانب، ولم تُعجزه المقاومات التي تحف به من وكل وجهة، كما لم تَضرهم مدنية الرومان والأعجام، ولم تُعجزهم بموثراتها عن مزاحمتهم في مضمار العلا وميادين الرقي والتقدم، بل سبقوهم وسيطروا عليهم بعد أن جاوروهم وبزُّوهم. فما هي تلك الروح العالية التي هبطت على هذه الأمة بواسطة نبيها؟ وما هو ذلك السر العظيم الذي حمله إليهم ففرطوا في حفظه؟ ذلك ما يجب أن يسأل عنه كل مسلم نفسه». الفقرة الثالثة: قال «وجدي» عن حالة رأى أنها بلية البلايا، وسمَّاها «الْمُعْتَقِدُ بالوراثة»: «هو رجلٌ وَجَدَ أبويه على مِلةٍ من الملل فَدَرَجَ عليها ثم كبر، ولم يحكِّم فيها نظرًا، ولم يعمل فيها فكرًا، بل قَنَعَ من الحياة ونعيم الوجود بما حصَّله له آباؤه من الرقي المادي، فجعل هذا الميراث حظه من الدنيا، ورام أن يبقى في يديه كما ورثه، ثم ينتقل إلى أولاده وأحفاده لا ينقص شيئًا فأشبه في ذلك من يَرِثُ عن أبويه مالاً فيجتزئ به غير طامع في سواه، ولم يدر أن حِفْظَ المال يحتاج لِعلم وعمل، ويلزم لاستبقائه أو إنمائه حالة من الحالتين: إمَّا عقيدة تعرفه أنه وماله هو لله، وأن كليهما مخلوق لتنظيم مُلك الله، فيسعى له إقامةً لِأمر الله، وردعًا عن مناهي الله، فيكون كالمسلمين الأولين حيث انصبت إلى خزائنهم ماليات الأمم بمحض قيامهم بخلافة الله. وإمَّا أن يكون بلا عقيدة فيظن أن المال قوام الحياة، وقيمة الإنسان في الوجود، ودستور الأمم والشعوب، ومفتاح السعادة والنعيم.. فيسعى لطلبه بكل الوسائل والحيل كما هو حال أكثر أمم هذا العصر. هذان هما السبيلان لاستغلال المال واستبقائه، كما أنهما السبيلان لايجاد كل مدنية واستمرارها. أما الذي لا إلى هؤلاء ولا إلى هؤلاء فلا يَصلح أن يكون مستقلاً في نفسه لأن الأرض لأحد رجلين: إمَّا رجل يعتقد أن الأرض لله فيأخذها صيانةً لأمانة الله وأداءً لخلافته، وإمَّا هي لِرجل يعتقد أنها جنته ومأواه، وليس له غيرها فيتكالب عليها تكالب الضواري على فرائسها، ويبذل في سبيلها كل ما يملك من حول وحيلة. أمَّا صاحبنا الذي يعتقد بالوراثة فليس واحدًا من هذين الرجلين، إنه ليس بمُعتقدٍ لأنه غير عامل بعقيدته، ولا جاحد لأنه مقر بقبح الجحود وبشاعته. فهو وسط بين الاثنين، وليس له إلاَّ تحمل أحد النيرين: فإمَّا أن يرضخ لسلطان صاحب العقيدة فيحييه بحياته، ويصرفه بحركته، وإمَّا أن يقع تحت ضرس غير المعتقد فيمزقه، ثم يزدرده مع ما يزدرد. نعم العقيدة بالوراثة ما لم يعززها الذوق الذاتي لا تُفيد صاحبها في الدنيا شيئًا، ولا أدري ماذا يكون نصيبه في الآخرة. لا تُفيده في الدنيا لأنه محروم من دافع العقيدة ودافع الوجود معًا. لأن المعتقد له من شعوره بأنه خليفة الله في الأرض أكبر باعث على استغلال الطبيعة، وإحياء مواتها، والذهاب في الإبداع فيها كل مذهب، وتاريخ لِآبائنا الأولين أكبر شاهد، وغير المعتقد له من يأسه من الآخرة أكبر سائق على التكالب على الدنيا، والتنعم فيها بكل الوسائل الممكنة. أمَّا الذي اكتفى من العقيدة بمحض تذكره أن أبويه كانا مؤمنين، فلا يحس بأثرٍ دافعٍ من ذينك الدافعين، فلا جرم لا يجد في نفسه لذة العقيدة ونورها الذي يضئ عليه مسالك الحياة، ولا حمى الجحود يأسه الذي يسوقه لكل ما ينعته في دنياه، وبناءً عليه فلا يكون نصيبه من الحياة إلا التمتع المؤقت بميراث آبائه فلا يلبث أن تغشاه غاشية من صولة الأمم الطامحة فتجعله لقمة سائغة، وتذهبُ به إلى حيث ذهب الغافلون من كل الأمم». الفقرة الرابعة: وفيها يقرر «وجدي» لماذا هو من دعاة «التقدم» و«التمدن» قائًلا: «الإسلام دين الله، وهو الحقيقة المطلقة التي استودعها منذ نشأة الإنسان قلوب سائر الأنبياء والرسل الكرام (شرع لكم من الدين ما وصى به نوحًا إلخ الآية) ولكن كانت أيدي تلك الأمم الجائرة تمتد إلى تلك التعاليم بالتحريف والتبديل رجاء أن يطبقوها على ما يناسب مقتضيات النقص الذي هم فيه، ودوام هذا الحال آمادًا حتى اقتضت الحكمة الإلهية إيداع هذا السر الأقدس لخاتم أنبيائه، ونخبة أصفيائه محمد -صلى الله عليه وسلم- في كتاب لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه، وقد حماه الله من امتداد الأيدي المحرِّفة إليه، وصانه من عدوان العادين عليه، وهو إلى اليوم كما أنزل يُقيم الحجة على الغالي والمقصر، ويُبشر المعتدل، ويُنذر المعذر، ويُشير إلى الطريق الذي لا يضل سالكه، ولا يخاف طارقه، وهو طريق العدل المستقيم (وأن هذا صراطي مستقيما فاتبعوه ولا تتبعوا السبل فتفرق بكم عن سبيله، ذلكم وصاكم به لعلكم تتقون). الغرض الأصلي من الإسلام تخليص الإنسان من قذر التربية الفاسدة، وأثر الوسط الرديء، وضر الوراثات الساقطة التي تلم بمجموعها بفؤاد الإنسان فتَحرمه من سبحات نور مُبدعه، وتُعميه عن رؤية الطريق الذي دفع فيه مولاه وهو الطريق الذي يقول عنه عز وجل (إنا هديناه السبيل إمَّا شاكرًا وإمَّا كفورًا). هذا السبيل هو سبيل الكمال، سبيل الرحمة، هو سبيل الهدى، وإن شئت التعبير باللهجة الجديدة فقل هو سبيل التقدم، هو سبيل التمدن. هو السبيل الذي سَارَهُ خاتم الأنبياء -صلى الله عليه وسلم- بوحيٍ من مولاه فكان من شأنه ما كان، وسار به أصحابه من بعده فأصبحوا ملوك الأرض وملوك السماء».