هنا.. في هذا الشارع، في هذا المكان، لم يكن مسموحاً لأحد بمجرد الوقوف.. أو أن ينظر خلفه.. عليك أن تمشي تسرع الخطى، وعلى بعد أمتار، دون حتى أن تسأل! عند هذا السور الذي يحمل شعار رئاسة الجمهورية.. ها أنا ذا أقف هذه المرّة، وألتقط صورة تذكارية، بينما أصبح بإمكان المارّة أن يستردوا أنفاسهم، بل يتجرأون و»يركنون» سياراتهم لساعات طويلة دون تعليمات أمنية، أو وجود حرس ينهرهم، أو مخبر «سري» يمارس سلطته القهريّة عليهم. هنا إذاً.. القصر الجمهوري الشهير، الذي كان يقطنه الرئيس السابق حسني مبارك.. أنوارٌ خافتة بالليل.. وطيور وحيدة، شاء لها القدر أخيراً أن تطير بحريّةً، وترفرف أجنحتها لتقف أنّى تشاء على أيٍّ من الأشجار التي لا تزال تحتفظ بخضرتها، فقط تتشارك في الوحدة والصمت وإغلاق الحجرات والممرات من الداخل. لم أتخيل يوماً مجرد التخيّل أن بإمكاني المرور من جانب السور، بل و»تحسس» الشعار الرئاسي بلونه الذهبي أو النحاسي، لا أدري، بل أنني عندما وقفت لأول مرّة في شرفة صديقي الذي يقطن مقابل القصر مباشرة، لم أصدق عيني.. وأنا أرى المشهد الذي غاب طويلاً عن غالبية المصريين، المغيّبين أو الذين يؤلفون حكايات «ألف ليلة وليلة» عما يحدث بين «الفرعون» وسيدة القصر التي كان يلقبها الجميع ب»صاحبة الجلالة». هذه هي الحديقة الكبيرة على بعد أمتار، وها هو مقر «الفرعون الأخير» في قصر العروبة، بحي مصر الجديدة، وقد بدا مهجوراً إلا من طاقم يتناوب حراسة الأطلال التي لم يبكها أحد. حكى لي صديقي، الخبير في إدارة التنمية البشرية، وأحد أهم 7 من مهندسي صناعة الأسمنت على مستوى العالم، الكثير من المعاناة التي عاشها طيلة سنوات، كان محظوراً عليه الوقوف في الشرفة، أو فتح النوافذ، وكانت عناصر الأمن، تعتلي سطح البناية، لتؤمن الوضع، خاصة مع دخول أو خروج الرئيس السابق، أو حتى عند إجراء مراسم استقبال لأحد الضيوف من الزعماء أو القادة. قال لي: انظر إلى الشارع.. لم يكن مسموحاً على الإطلاق، أن تقف أي سيارة فيه على أي جانب، حتى حديقة الشارع، كان التنفس فيها صعباً للغاية، ثم لخّص الحياة بقوله :»كانوا يعدّون علينا أنفاسنا» ثم ضحك بروح السخرية المصرية قائلاً :»كنت أخاف أن أُصدِر صوتاً أثناء نومي خشية أن يسألوني عنه» ولما سألته «مستعبطاً» عن هؤلاء الذين يسألونه؟ أجاب :»اللي ما يتسموش.. الله يجعل كلامنا خفيف عليهم»!. بالقرب من البوّابة الرئيسية عند مدخل القصر، بشارع إبراهيم اللقاني، سمعت أحد الحرّاس يتبادل النكات مع زميله، كان بلباسه الأسود يبدو متأهباً، ولكنه بكل تأكيد، أقل توتراً.. فسمحت لنفسي بالاقتراب منه وقلت له بعد تحية عادية: «اضحك يا عمّ» نظر إليَّ وهو يبتسم: «بصراحة لم أكن أستطيع أن أفعلها قبل ذلك» ثم استطرد: «لماذا لا أضحك وقد أصبحت أحرس خرابة؟». تأملت العبارة، وأكملت بصوتٍ شبهِ مسموع :»خَرابة ولكن ممنوع التصوير»! فردَّ عليّ ساخراً.. وكأنه يستعيد ذكريات ماضي يتأكد أنه لن يعود :»هو في حاجة يا باشا اليومين دول ممنوعة؟». أخرجت الكاميرا من جيبي، واستأذنته في التصوير، فاكتفى بالقول :»براحتك».. دفعني الفضول لأن أطلب منه تصوير ما بالداخل، حتى لو فتح «البوابة» قليلاً.. اعتذر بلطف واستطرد :»احمد ربنا»..! حمدتُ الله طبعاً، لأني عشت إلى اليوم الذي أقف فيه أمام القصر الشهير، وألتقط بعض الصور التذكارية، وأحادث الحرس الذين كانوا ذات يوم مدجّجين بالحماية الرئاسية، والحرس الرئاسي، والكلاب الرئاسية أيضاً. الحديقة الطولية أمام القصر، أصبحت مكاناً جيداً لفسحة الكلاب.. كلاب راقية (؟!) لم يجد أصحابها مكاناً للترفيه عنها أو تزاوجها، سوى هذا المكان الذي لم يكن يجرأ مصري واحد على أن يلتقط أنفاسه فيه. بجانب السور، من جهة شارع بغداد، والمؤدية إلى كافيه جروبي الشهير، كانت سيّدة تتمشى مع كلبها، رغم أنها مصرية الملامح، إلا أن بحديثها بعض اللكنة، اقتربت منها وأنا أبتسم من فرط الدهشة، اكتفت بتحيتي بالإنجليزية مع إشارة رافضة من يدها عندما لاحظت أني أهم بالتصوير، بينما كلبها الصغير يهز ذيله، ربما فرحاً، وربما صدفة، لكني وبعد خطوات أسندت ظهري لسور القصر الرِّئاسي، ونظرت إلى السماء متمتماً :»يا له من زمن.. حتى الكلاب استطاعت أن تمرّ من هنا، دون أن ينهرها أحد»؟!