في الصباحات.. تشدُّني حاوياتُ القمامةِ من بصيرتي مثلما تشدُّ قطٍّا جائعا من غريزته كلَّما عبرتُ الشارعَ ورأيتُها مُشْرعَةً على السماء مثل سطوح المنازل الصغيرة. أستغرقُ في شِبْهِ تأمُّل: كلُّ حاويةٍ سفوحٌ وهضابٌ من الفضلات المتراكمة.. هي تضاريسُ خارطةٍ تقود إلى أحوال الناس في الداخل.. كلُّ حاويةٍ لوحةٌ تشكيليَّةٌ تحملُ حضارةَ الأمعاء وثقافةَ المعدة. أستغرق في التأمُّل وأمدُّ أصابعي بين الأكياس، ثمُّ أحرِّكها حتى ترتفع خشخشةُ الأصابع، وربَّما اعتقد المارَّة أنَّني أبحث عن بقايا طعامٍ يسدُّ جوع الجسد، ولكنَّ الحقيقةَ أنَّني أبحث بين النفايات عن أسرار كينونتي التي تبعثرتْ في هذا المنفى الكبير المسمَّى مجازا بالعالَم، وما أزال أبحث عنها مصحوبا باليأس والعبث واللاَّ جدوى. أستغرق في التأمُّل أكثر فتأخذني القمامةُ إلى ضفَّة النهايات حيث القبورُ سلالُ المهملاتِ الأبديَّة، وحيث الأجسادُ فَضَلاَتُ هذه الدنيا المنذورة ولائمَ كبرى للدود والحشرات. القمامةُ هي خلاصةُ ما نَعْمَلُهُ طوالَ اليوم.. بينما كلُّ شارعٍ يدفع جبايتَهُ من الوسخ إلى سيَّارة البلديَّة، تدهسُني شاحنةُ الفكرة محمَّلةً بالسؤال الأليم: أَعَجِزْناَ نحنُ البَشَرَ.. أبناءَ الأصل الواحد.. أَعَجِزْنَا أنْ نَتَوَحَّدَ إلاَّ في قمامتِنا؟! هي إِذَنْ حقيقتُنا المجرَّدَةُ من غِمْدِ الواقع مثل سيفٍ حادّ.. ننفيها إلى الخارج مخافةَ أن نصطدمَ بها في الداخل فنَتَهَشَّم مثل عُلَبِ الصفيح البائس. القمامةُ هي الطبقةُ المنبوذةُ في مجتمع المائدة، دائما ما يراها المارَّةُ نائمةً على ناصية الطرقات.. هي طبقةٌ كادحةٌ ليس لها غلافٌ يحمي، لكنَّها تدافعُ عن نفسها حينما تُهمل.. تذكَّروا أيّها المنبوذون: حتَّى القمامة تدافع عن نفسها حينما تُهمل فتستنبت الجراثيمَ لحراستها والأوبئةَ للدفاع عنها.. كلُّ جرثومةٍ صرخةُ احتجاجٍ ضدّ الإهمال، وكلُّ وباءٍ مُحَامٍ يترافعُ باسم النظافة. أستغرقُ في التأمُّل المطلق.. وبينما كلُّ شارعٍ يدفع جبايتَهُ من الوسخ إلى سيَّارة البلديَّة، تدهسُني شاحنةُ الفكرة محمَّلةً بالسؤال الأليم: أَعَجِزْناَ نحنُ البَشَرَ.. أبناءَ الأصل الواحد.. أَعَجِزْنَا أنْ نَتَوَحَّدَ إلاَّ في قمامتِنا؟! في الصباحات.. تشدُّني حاوياتُ القمامة مثل كُتُبٍ فلسفيةٍ غامضةِ الأفكار، مفتوحةٍ على آفاقٍ شاسعةٍ من التآويل التي تستجمع العناصر الضائعة من حقيقة الإنسان: هل يا تُرى سَمَرُ الأقدارِ يذكرُنا للقادمينَ فيصحو بعدَنا، الأثرُ ؟ أمْ ننتهي مثلما قِنِّينَةٍ صرختْ على شفاهِ الندامَى وَهْيَ تُحتضَرُ ؟ فما أجابَ سوى النسيانِ يقذفُها بين النفاياتِ كي لا يُجرَحَ السَّمَرُ صرنا النفايةَ في الأرضِ التي خُلِقَتْ من أجل أنْ يتسامَى فوقها، البشرُ! الغربةُ البكرُ لم نخلعْ ملابسَها نحن الأُلى عبروا الدنيا.. وما عبروا!