عبد الله الغشري من أوائل الصحفيين في الشرقية، وفي رواية أخرى من أكثرهم طهرا ونبلا. عاش بسيطا، بكرامته وعزته، ومات شريفا. لك الجنة يا أبا شيخة. كتبت هذه الكلمات مباشرة بعد عودتي من المقبرة، كتبتها داخلي دون قلم أو أوراق أو فواصل. كتبتها وأنا لم أغادر بعد مشهد الحزن الكبير في عيون الزملاء في المقبرة، الحزن الذي يجعلهم يصمتون طويلا وكأنهم يسبحون في ملكوت آخر، ربما في حكاية مع الغشري، أو بوح عاجل بين ردهات التحرير، أو حتى موقف طريف .. أو وهو يخرج بسيارته من القبو مغادرا الجريدة للمرة الأخيرة. في هكذا مواقف، وحين يستبد الحزن بأرواحنا، نشعر بضعفنا البالغ، وهل هناك موقف أكبر من فقد إنسان حياته ملأى بالطيب والطهر والبياض، وقلبه نابض بالخير وحب الناس والحياة، كعبد الله الغشري. نشعر بضعفنا فتتلعثم الكلمات في شفاهنا وتتعثر على الورقة البيضاء الصامتة. (44) عاما قضاها في بلاط الصحافة كللته عميدا للصحفيين بالمنطقة الشرقية.. لم يسع الى هذا التشريف، بل تجده يبتسم حين يسمع ذلك، ولا تعرف ما الذي يريد قوله بعينيه البريئتين! ولسخريته الفارطة ربما حمَل مفردة (عميد) مدلولاته اللاذعة ليشتعل الموقف ابتسامات صاخبة. لم أجد صحفيا أكثر هدوءا وسمتا ووقارا منه .. ولم أجد صحفيا يشابهه في نقاء سريرته وطهارة قلبه وبراءة حياته وسيرته. حين تتحدث معه يخرج صوته بهدوء وكأنه يحادثك سرا، أو كأنه يخشى ان يخدش الهواء والحياة بصخب كلماته، وهي الهادئة المطمئنة كروحه الفياضة بالحب. ليس ذلك وحده، لم أجد أحدا في الوسط الإعلامي إلا ويكن له حبا واحتراما بالغين، يمازحه بهدوء وبود ملحوظ. ظل (بو شيخة) اسما بارزا يحمل (كاريزماه) الخاصة، واستطاع ان يضع بصمته الانسانية والأخلاقية في جبين المشهد الإعلامي، دون ان يسيء الى أحد، أو يظلم أحدا ، أو يغضب أحدا، ودون ان يعبر في الدهاليز الرخيصة، أو يستفز أحدا من أجل سبق عابر. (كاريزما) الغشري لم تتشكل دون تعب وتضحيات كما يعتقد البعض، فهذا الرجل الطاهر الشريف ابتدأ حياته المهنية موزعا للصحيفة على دراجته الهوائية (السيكل)، متنقلا بين الجهات والدوائر الحكومية، ولكأني به يوزع ابتساماته وشيئا من روحه الطيبة مع الصحيفة.. وكابد مشاق الحياة ومتاعبها كموظف في المطبعة ينام في الصحيفة ليالي طوالا، عشقا ل «اليوم» التي منحها كل حبه وحياته وأزمانه. إلى أن نرى ذات (السيكل) الصغير، الذي يجوب شوارع الدمام وطرقاتها من أجل توزيع الجريدة، يدخله الى عالم الصحافة الشائك المتعب الطويل.. حتى تكلل بسيرته الناصعة وتاريخه الأبيض وقلبه الطاهر عميدا لصحفيي المنطقة الشرقية. أعيدها ثانية : الغشري من أكثر الصحفيين طهرا ونبلا.. عاش بسيطا بكرامته وعزيمته، ومات شريفا. نم هانئا، قرير العين، يا أبا شيخة. تكللك رحمة الله وعنايته. نم هانئا، فمثلك له الجنة إن شاء الله. Twitter:@Badralsunbul [email protected]