ربما يلاحظ كثير من الناس التغيرات التي اعترت الحياة الاجتماعية للناس في كافة بقاع العالم، ولكنها - فيما أظن - أكثر جذرية لدينا من غيرنا من شعوب الأرض. فبعد أن غزت أجهزة الجيب المحمولة عقول الناس، وسيطرت على أيديهم، أصبحت كثير من السلوكيات ذات صلة بذلك الارتباط بين الأفراد وأجهزتهم المحمولة. بدءاً من بعض الحالات المتصلة بالتعلق الشديد للناس بأي جهاز في أيديهم، مما يؤدي في أوضاع ليست قليلة إلى أخطار جسيمة تلحق بصاحب الشأن، أو بآخرين يقاسمونه الطريق أو التواجد في مكان مشترك؛ ومروراً بما هو أقل منها خطورة، لكنه على المستوى العام ذو أثر سلبي كبير، مثل انشغال الناس في مواقع العمل، وفي بعض المناسبات الاجتماعية باستعراض الصور والمحادثات مع آخرين بعيدين عن الموقع. وفي كل ذلك الانقلاب القيمي لا يلاحظ كثير من الممارسين لذلك الانزياح في الانتباه، وفي عدم مراعاة الذوق والاتيكيت بالانجذاب إلى شاشة في اليد؛ في حين أن لدى المرء ما يفترض أن يفعله أو يقوله أو ينظر إليه. ففي تجربة أجريتها في عدة محلات تجارية، دخلت إلى خمسة أو ستة محلات من ذوي نشاطات مختلفة؛ وفي كل تلك المحلات أسلّم عند الدخول، ثم أقف بانتظار أن يلتفت لي أحد الباعة، أو يسألني بما يمكنه أن يخدمني. لكن توقعاتي تبوء بالفشل؛ فأولئك الموظفون كل منهم مشغول بشاشة بين يديه، وينتظر حتى يقف الزبون على رأسه، ويكلمه شخصياً من أجل أن يرعوي عن متابعة شؤونه الخاصة. وعندما مررت بالبوابة، التي يفترض أن الحراسة فيها تدقق في هيئات الداخلين والخارجين، وموكول إليها عمل مهم يتقاضون أجرهم عليه؛ لكن أفراد تلك الحراسة كانوا مثل الباعة مشغولين بما أخذ عليهم ألبابهم. ما الذي أحدثه ابتكار ستيف جوب، ومن تبعه في اختراع أفكار الأجهزة الذكية للشعوب ذات القاعدة الهشة من تقاليد الاهتمام بأجواء العمل، والمصابة في المجمل بضعف فيما يخص الانغماس في العمل بهمة عالية؟ هل هو ذنب أولئك المبتكرين، وجنايتهم على حياة ملايين البشر، الذين تأثروا سلباً بتفشي ظاهرة البلاهة مع التوسع في استعمال الأجهزة الذكية؟ أم هي ضريبة التقدم العلمي التي يجب على البشر أن يدفعوها بتكاليف باهظة في بعض بقاع العالم أكثر من غيرها؟ ولنترك كل هذه الجوانب العملية والتأثيرات السلبية فيها، ونتجه إلى ما اعترى علاقات الناس من ذوي القربى والأصدقاء؛ فمن خلال نظرة إلى مجالس الناس، الرسمية منها والخاصة، نكتشف أن كثيراً من الحاضرين يتواصل مع آخرين غير موجودين معه في المجلس، وربما يكونون في عالم افتراضي لم يره من قبل. ونرى أن الابتسامات وآثار الانطباعات على ملامح الوجه، وفي حركات البدن تكاد تكون منفصلة عما اعتاد البشر عليه خلال الحقب التاريخية الطويلة قبل هذه الاختراعات. فالابتسامة لا تصاحبها نظرات إلى شخص يجلس الإنسان بجانبه، أو يتبادل معه الحديث أو المشاعر؛ بل أمام صورة أو نص مكتوب لا حراك فيهما. أتمنى ألا تنتقل هذه التحولات في طرق التعبير عن المشاعر إلى ملامح طفرة جينية يغدو فيها الإنسان من الكائنات ذات المشاعر الجامدة، عندما يتقابل أفرادها بعضهم مع بعض، وجهاً لوجه؛ فمثل هذه التحولات قد تكون مبشرة بحقبة جديدة لكائن جديد.