بعد أن استعرضنا -بشكل موجز- نشأة القانون ونشأة الشريعة في المقال الماضي، فإننا سنبني عليه في هذا المقال والذي يليه دلالة هذه النشأة على تميز الشريعة عن القانون، حيث سنورد ثلاث مزايا جوهرية للشريعة، يُغني الكلام عليها عن الكلام على غيرها. الميزة الأولى: أن القانون من صنع البشر، أما الشريعة فمن صنع الله، وكل من الشريعة والقانون يتمثل فيه بجلاء صفات صانعه. فالقانون من صنع البشر ويتمثل فيه نقص البشر وعجزهم وضعفهم وقلة حيلتهم، ومن ثم كان القانون عُرضة للتغيير والتبديل -أو ما نسميه التطور- كلما تطور المجتمع إلى درجة لم تكن متوقعة أو وجدت حالات لم تكن منتظرة. فالقانون ناقص دائما ولا يمكن أن يبلغ حد الكمال ما دام صانعه لا يمكن أن يوصف بالكمال، ولا يستطيع أن يحيط بما سيكون وإن استطاع الإلمام بما كان. أما الشريعة فصانعها هو الله، وتتمثل قدرة الخالق وكماله وعظمته وإحاطته بما كان وما هو كائن، ومن ثم صاغها العليم الخبير بحيث تحيط بكل شيء في الحال والاستقبال، حيث أحاط علمه بكل شيء، وأمر جل شأنه ألا تُغير ولا تُبدل حيث قال تعالى: (لا تبديل لكلمات الله)، لأنها ليست في حاجة للتغيير والتبديل مهما تغيرت الأوطان والأزمان وتطور الإنسان. وقد يصعب على غير المسلمين أن يؤمنوا بهذا القول؛ لأنهم لا يؤمنون قبل كل شيء بأن الشريعة من عند الله، ولسنا نهتم من أمر هؤلاء إلا بأن يؤمنوا بأن الشريعة تتوفر فيها صفات الكمال والجلال، وعلى أن يظهر لهم الدليل على توافر هذه الصفات فيها، وعليهم هم بعد ذلك أن يبحثوا إن شاءوا عن سبب توفر هذه الصفات في الشريعة دون غيرها، وأن يبحثوا عن صانعها. ولعلنا أن نشير هنا -تأكيدا لما سبق ذكره- إلى أن المؤتمر الدولي للقانون المقارن الذي انعقد في مدينة لاهاي في دورته الأولى عام 1932م اعترف فيه أعضاؤه من علماء القانون الألمان والإنجليز والفرنسيين وغيرهم بأن الشريعة الإسلامية إحدى الشرائع الأساسية التي سادت، ولا تزال تسود العالم، وبأنها مرنة قابلة للتطور، وفقه الإسلام فقه حي نام متطور يجب النظر إليه بعين الاعتبار، وفي دورته الثانية عام 1937م في لاهاي أيضا قرر أعضاء المؤتمر ما يلي: 1- اعتبار الشريعة الإسلامية مصدرا من مصادر التشريع العام. 2- اعتبارها حية قابلة للتطور. 3- اعتبارها قائمة بذاتها ليست مأخوذة من غيرها. وأما فيما يخص الذين يؤمنون بأن الشريعة من عند الله فليس يصعب عليهم أن يؤمنوا بتوفر هذه الصفات في الشريعة ولو لم يُقدم لهم الدليل المادي على ذلك، لأن منطقهم يقضي عليهم أن يؤمنوا بتوفر هذه الصفات انطلاقا من إيمانهم بأن الله هو الذي خلق السموات والأرض، وسير الشمس والقمر والنجوم، وسخر الجبال والرياح والماء، وأنبت النبات، وصور الأجنة في بطون أمهاتهم، وجعل لكل مخلوق خلقه من الحيوان والنبات والجماد نظاما دائما لا يخرج عليه، ولا يحتاج لتغيير ولا تبديل ولا تطور، وانطلاقا أيضا من إيمانهم بأن الله وضع قوانين ثابتة تحكم طبائع الأشياء وحركاتها واتصالاتها، وأن هذه القوانين الطبيعية بلغت من الروعة والكمال ما لا يستطيع أن يتصوره الإنسان. ومن كان مؤمنا بهذا كله وبأن الله أتقن كل شيء خلقه، فأولى به أن يؤمن بأن الله وضع الشريعة الإسلامية قانونا ثابتا كاملا لتنظيم الأفراد والمجتمعات والدول وضبط تعاملاتهم، وأن الشريعة بلغت من الروعة والكمال حدا يعجز عن تصوره الإنسان. الميزة الثانية: أن القانون عبارة عن قواعد مؤقتة يضعها المجتمع لتنظيم شؤونه وسد حاجاته. فهي قواعد متأخرة عن المجتمع، أو هي في مستوى المجتمع الحالي لكنها ستكون متخلفة عن مستوى هذا المجتمع في المستقبل، وسبب ذلك هو أن القوانين لا تتغير بسرعة تطور المجتمع، فهي قواعد مؤقتة تتفق مع حال ومستوى المجتمع الحالي، لكنها تستوجب التغير كلما تغير حال المجتمع. ولعلي أُشير إلى مثال الطبقية، وحرمان البنات من ميراث والدهم إن لم يكن معهن ولد، والمسؤولية الجنائية على الصغير وغيرها من الأمثلة التي لم يهتد واضعو القوانين الغربية فيها لمثل ما عليه الشريعة الإسلامية إلا بعد القرن الثامن عشر (الثورة الفرنسية)، بل إن هناك من قواعد الشريعة -التي أتت قبل ألف وأربعمائة سنة- ما لم يهتدوا إليه حتى الآن مثل إجبار أقرب وارث للمرأة العزباء أن يُنفق عليها مثل نفقته على نسائه سواء كان أبا أو أخا أو عما أو حتى ابن عم أو أبعد من ذلك بل إن هذه المرأة ولو كانت قادرة على العمل فإنها لا تُجبر على العمل ولا تكون قدرتها على العمل مسوغا لإسقاط نفقتها إلا إن هي رضيت بذلك. ولذلك أذكر في هذا المقام قصة ذلك العالم المصري الذي ذهب إلى فرنسا لدراسة الدكتوراة في أوائل القرن الماضي وسكن لدى عائلة فرنسية تؤجر غرفا علوية في بيتها للدارسين فكان يرى فتاة تأتي كل يوم لتنظيف هذا النُزل لساعات معدودة وتبدو عليها مخايل الحسب والنسب في تقاسيم وجهها وطريقة تعاملها فسأل عنها -متعجبا من أمرها- صاحبة هذا النُزل فأجابته بأنها توفي والداها وهي يتيمة وعمها هو أغنى رجلٍ في البلدة ويرفض الإنفاق عليها، فأجابها هذا العالم المصري بأنها لو كانت في بلادنا وتحت حكم قانوننا الإسلامي (الشريعة) لأُجبر عمها أن ينفق عليها كما ينفق على بناته دون نقصان أو امتهان، فانبهرت هذه الفرنسية وتمنت بكل حرقة لو يُطبق هذا القانون المُكرم والمُعظم للمرأة عندهم. وصدق الله القائل (أليس اللهُ بِأحكمِ الحاكِمِين). أما الشريعة فهي قواعد وضعها الله تعالى على سبيل الدوام لتنظيم شؤون المجتمع، فالشريعة تتفق مع القانون في أن كليهما وُضع لتنظيم المجتمع. ولكن الشريعة تختلف عن القانون في أن قواعدها دائمة ولا تقبل التغيير والتبديل. ولعلنا في المقال القادم أن نبسط الكلام قليلا على ديمومة ومرونة وسمو هذه القواعد مع الميزة الثالثة للشريعة على القانون بإذن الله.