ذات مساء، توجهت إلى منزل إحدى قريباتي في أحد أحياء الدمام، وشدني ذلك المنظر الذي رأيت فيه عددا من السيارات تقف بجانب عربة غريبة الشكل، ظننتها تلك التي كانت تتواجد في الأسواق الشعبية لبيع المعلبات والعصائر الباردة، طلبت من ابني التوقف للحديث مع صاحبها، وبالفعل، انتظرت ذهاب تلك السيارات كي أبدأ مع صاحب تلك العربة حوارا سيتخلله العديد من الأسئلة «الغثيثة»، لكنني قررت أن أراقب ما يفعله صاحب تلك العربة وما يعرضه على الزبائن، شاهدت شابين اثنين يجتهدان في عملهما بكل حب وإخلاص، هذا يستقبل من زبائنه طلباتهم، وآخر يعد بعض الوجبات التي تصاعدت أدخنتها حاملة معها رائحة جميلة أطلقت عليها «رائحة الشهامة». نعم، لقد كان عملا شهما ذلك الذي قام به هذان الشابان ومن هم على شاكلتهما، لأن العمل الذي تجني ثماره أتعاب يدك لا يقارن بأي شيء آخر، فأبواب الحياء قد تم غلقها من قبلهما، فكل عمل لا يمس كرامة الإنسان أو يعرضه لسلطة القانون أو الكسب الحرام فهو «مباح». وكلما تقدمت لأسأل أحدهما، أتت سيارة يطلب صاحبها وجبة سريعة يسد بها رمقه، وأنا أنتظر أن يخلو المكان لي كي أسأل بكل أريحية دون أن أحرجهما، وما إن حانت الفرصة حتى أعطيته حزمة من الأسئلة والتي كان يجيبني عليها بكل فخر وهدوء، كان يدعى خالد، وعمره في منتصف العقد الثالث، وهو يعمل في قطاع الصحة، وصديقه فيصل، يصغره بعامين تقريبا، ولا يزال يبحث عن وظيفة، قالا لي: إنهما يشعران بالفخر في هذا المشروع الذي تم تأسيسه من قبلهما، حيث يتواجدان في العربة منذ الساعة الرابعة، ولا يعودان إلى المنزل إلا في تمام الساعة الحادية عشرة والنصف، وأن مدخولهما المالي «الجيد» يساهم في دعم أسرتيهما وتوفير احتياجاتهما الخاصة. وعن نوع تلك الوجبات التي يتم تقديمها للزبائن، أخبرني خالد بأن الوجبات السريعة هي التي تتميز بها العربة، ناهيكم عن العصيرات الطازجة والتي أضافا بصمتهما الخاصة في عملية التحضير والتقديم، وكان سؤالي الأخير يتمثل فيما لو سيقرران ترك عملهما في المستقبل القريب لأي سبب، فكانت الإجابة بأنهما فخوران بعملهما، وأنهما لن يستغنيا عما وصفاه ب«القصر»، إذ ذكرا لي بأن مكوثهما في العربة أكثر من تواجدهما في المنزل، وأن الكسب الطيب والدخل المالي الإضافي عمل إيجابي يصب في نهر كبير من المصالح. فرسالتي إلى أبنائي: «استغلوا أوقات فراغكم فيما تقدرون عليه، لا تكونوا عالة على أهاليكم أو وطنكم اللذين ينتظران منكم الكثير، اجعلوا من أوقات فراغكم منجمًا لتفجير طاقاتكم وتحقيق عوائد مالية جيدة لكم، وليكن خالد فيصل مثالين وقدوتين لكم، فكل دقيقة من وقت فراغكم في زمنكم هذا تعادل وزنها ذهب».