تحدثتُ في المقال السابق عن بعض الجوانب المتعلّقة بجهاز تسوية المنازعات في منظمة التجارة العالمية، وتطرقتُ إلى وسيلة المشاورات كوسيلة أوليّة لتسوية منازعات التجارة الدولية بين الدول الأعضاء في هذه المنظمة، واستكمالًا لما سبق ذكره، فإنَّ المفاوضات بين أطراف النزاع تجري في جو يسوده التعتيم والسرِّيَّة، ولا تنشر تبادل المذكرات أو المراسلات أو ما يدور على مائدة المشاورات، بغية إقصاء عمليَّة التسوية عن سائر السلوكيَّات والتصرّفات الخارجيّة التي يمكن أن تؤثّر عليها بالسلب؛ تحقيقًا لمصالح أو أجندات خاصّة. وفي هذا الصَّدد نصَّت المادَّة (4/6) من مذكرة التفاهم بشأن تسوية المنازعات على أنَّه: «تكون المشاورات سرِّية وينبغي ألّا تخلَّ بحقوق أيّ عضو في إجراءات لاحقة». كما يجب أن تجرى المشاورات بحسن نيّة عند قبولها من الطرف المشكو ضدّه. والغرض من تحديد فترة المشاورات هو تطبيق لمبدأ التسوية الفورية للنزاع، وهذا الأجل هو عبارة عن مدّة زمنيّة أقصاها ستون يومًا من تاريخ تقديم طلب التشاور، فإذا انقضت هذه المدة بين الطرفين ولم تتوصل المشاورات إلى حلٍّ مُرْضٍ أو تسويةٍ ملائمةٍ خلال الستين يومًا، فإنَّه يتمُّ الانتقال بعد ذلك إلى إجراءات أخرى تُعرف بإجراءات التقاضي، حيث يتمُّ تشكيلُ لجنة فصل لنظر النزاع المُثار بين الخصوم والبتِّ فيه. وهذه المدَّة الزمنيَّة المذكورة أعلاه والمحدَّدة بستين يومًا ترتبط فقط بالحالات العاديّة ولا تنطبق على الحالات المستعجلة، حيث إنَّ الأخيرة تحظى بأحكامٍ خاصة، فيما يتعلّق بالمدة الزمنية، حيث أجازت مذكرة التفاهم للأعضاء في الحالات المستعجلة أن تدخل في مشاورات خلال مدّة زمنية أقصاها عشرة أيام من تاريخ تسلُّم الطلب، وإذا أخفقت المشاورات في حلِّ النزاع خلال فترة زمنيَّة لا تتجاوز عشرين يومًا، يجوز للطرف الشاكي أن يطلب إنشاءَ لجنة فصل. ويتَّضح مما سبق ضرورة التفريق بين نوعين من المدد الزمنية في مرحلة المشاورات، أوَّلهما: المدَّة الزمنيَّة في الحالات العاديَّة، وهي مدَّة زمنيَّة أقصاها ستون يومًا من تاريخ تقديم طلب التشاور. والثانية: المدّة الزمنيّة في الحالات المُستَعجلة، وهي مدة زمنيّة أقصاها عشرون يومًا بعد تسلّم الطلب. ولا يوجد ما يمنع خلال مرحلة المشاورات استخدام وسائل أخرى ودّية واختياريّة يمكن اللجوء إليها بمحض إرادة الأطراف المتنازعة؛ إذا ارتأوا أنّها ستكون مُجدية وقد تحقّق نتائج إيجابيّة، وهذه الوسائل هي المساعي الحميدة أو التوفيق أو الوساطة، وتهدف إلى التوصُّل لحلول إيجابيّة ناجعة تكون مقبولةً لأطراف النزاع، وذلك في حال فشل المشاورات في التوصل إلى نتائج إيجابية، وقد نصّت على هذه الوسائل المادة الخامسة من مذكرة التفاهم بشأن تسوية المنازعات، وأحاطتها بمجموعة من الضوابط والضمانات التي يجب مراعاتها والالتزام بها عند اللجوء إلى أيٍ منها. وجدير بالذكر أنَّ مذكرة التفاهم بشأن تسوية المنازعات أجازتْ لمدير عام منظمة التجارة العالمية – بحكم منصبه – أن يعرض المساعي الحميدة أو الوساطة أو التوفيق؛ بغية مساعدة الأطراف المتنازعة على إيجاد تسوية للنزاع القائم بينهما، مع مراعاة حق الأطراف في قبول أو رفض عرض مدير عام المنظمة. وفي الوقت ذاته لا يوجد ما يمنع من قيام بعض أعضاء هذه المنظمة – من غير أطراف النزاع – بعرض مبادرتهم للوساطة أو المساعي الحميدة أو محاولة التوفيق بين الأطراف المتنازعة. وكما سبق وأن ذكرنا فإنَّه في حال فشل أو إخفاق المرحلة الأوليّة (المشاورات) في التوصُّل إلى حلٍّ وتسويةٍ للنزاع القائم خلال المدَّة الزمنيَّة المحدَّدة، فإنَّه يتم الانتقال بعد ذلك إلى المرحلة الثانية من مراحل تسوية المنازعات التجارية بموجب وثيقة أو مذكرة التفاهم، وهي اللجوء إلى لجنة فصل، وهو أحد الطرق القضائية الفاعلة التي يتم اللجوء إليها لتسوية وإنهاء المنازعات. وأخيرًا، تجدر الإشارة إلى أنَّ جميع الدول الأعضاء تحترم أحكام جهاز تسوية النزاعات وتقوم بتنفيذه، بما في ذلك الولايات المتحدَّة الأمريكيَّة التي لا تكترث عادةً بقرارات جهاتٍ دوليَّة.