مع التوجه الحكومي لتقليص النفقات والخصخصة ونقل ملف التوظيف من القطاع العام إلى القطاع الخاص، تبرز تساؤلات كثيرة حول مصير الخريجين والخريجات في مجالات نظرية وتربوية، وبعض التخصصات التطبيقية، الذين بنوا خياراتهم على الوضع السابق حينما كانت الوظائف الحكومية هي الحاضن الأول والأكثر استقراراً. هؤلاء المواطنون خاصة التربويين منهم لم يكن في حساباتهم التحول السريع الذي تم في مجال حوكمة وتقنين القطاع الحكومي، ومن الحكمة ألا يدفعوا ثمن التغيير في وزارة التربية، كما دفع الدارسون على حسابهم الخاص خارج المملكة الثمن، وتبدو شريحة المتضررين هذه المرة أكبر، وأصواتهم ستكون أعلى بكثير. لست معلماً لكني تابعت كغيري ردة الفعل التي تعبر عن صدمة في وسط المعلمين حول تصريحات وزير التربية والتعليم الدكتور أحمد العيسى قبل يومين حول وجود فائض في المعلمين، بينما عبر الكثيرون عبر وسائل التواصل الاجتماعي عن معاناة كثير من القرى والهجر ومدن الأطراف من عجز في توفير معلمين ومعلمات، بالإضافة إلى ندب المعلمين لتغطية أكثر من مدرسة أو دمج المدارس للاستفادة من العدد المحدود للمعلمين في تلك المناطق. لن أكرر كل ما ذكرته تلك الأصوات، ولن أسترسل في الحديث حول خطورة استمرار إغلاق التوظيف في قطاع التعليم لمدة عام كامل بما يعنيه من ضغوط على سوق العمل، وبما يحمله من ثمن فادح سيدفعه أصحاب بعض التخصصات النظرية التي يصعب أن تجد لها وظيفة في القطاع الخاص المثقل بخفض الإنفاق الحكومي، وضرورات التحول من الريعية الاقتصادية إلى اقتصاد المعرفة. قواعد اللعبة تغيرت بلا شك وعلينا جميعاً أن نعطي شيئاً من العذر لتوجهات وزارة التربية التي لابد أن تُعيد حساباتها في اختيار المعلمين وتقليل حجم الخريجين والخريجات في التخصصات النظرية التي ليس لها ذات المستقبل والأفق الوظيفي الذي تحظى به في الغرب وربما الشرق مثل التخصصات الاجتماعية، وهذه قضية أخرى تحتاج إلى وقفة من المعنيين بهذا الشأن أيضاً. ما لا يمكن تجاوزه في نظري هو تساؤل يحق لنا أن نسمع إجابة واضحة عنه من معالي الوزير بعد تصريحاته الأخيرة وهو: كم نسبة المعلمين الأجانب في التعليم العام الحكومي؟ وأهم من ذلك كم نسبة المعلمين غير السعوديين في التعليم الأهلي؟ وأخيراً لو طبقت معايير وزارة العمل على مؤسساتنا الأكاديمية العليا فهل ستصل جامعاتنا إلى النطاق الأخضر؟ بالتأكيد لا يطالب أحد بنسبة تصل إلى 100% من السعودة فنحن بحاجة لكوادر غير سعودية عالمية الطابع، ومتميزة في تخصصات نادرة، وبمقدرات عالية لرفع تأهيل خريجي التعليم ليكون على مستوى التحدي الذي تفرضه الرؤية الوطنية 2030، لكن هل هذا هو الحال اليوم؟ وهل تستقطب جامعاتنا فعلاً الكفاءات التي تبحث عنها كبرى الجامعات العالمية؟ وهل نتحدث عن تخصصات نادرة؟ نعم، قد يكون عدد المعلمين في المدن الرئيسة وفيراً كما صرح الوزير، لكننا بحاجة لأن نعرف من هؤلاء؟ وهل هم مواطنون؟ وما تخصصاتهم؟ وهل تخطط الوزارة لتعديل إستراتيجي يبدأ من تقليص بعض التخصصات؛ لمعالجة قضيتها بهدوء، أم أن التغيير يعني وقف التوظيف وتحويل الفائض إلى دائرة البطالة؟ الحديث عن تكدس قطاع التعليم بالمعلمين والمعلمات بالرغم من إغلاق التوظيف، وموجة تقاعد من التعليم العام، يدعونا للتساؤل أكثر من أي وقت مضى عن الوجود العريض لغير السعوديين في التعليم خصوصاً التعليم العالي، والتعليم الأهلي، ولماذا لا تتحرك الوزارة لوقف هذا التوجه وسيل الإعلانات الوظيفية التي تملأ الصحف والمواقع الإلكترونية في الدول العربية المجاورة هذه الأيام بالتزامن مع تصريحات الوزارة حول تكدس السعوديين؟ الحقيقة التي لا يمكن تجاهلها، هي أن قطاع التعليم هو جوهر أي تحول وطني، واسألوا عن الدول التي تحولت من مستوى متأخر اقتصادياً إلى مستوى متقدم مثل دول النمور الآسيوية ومؤخراً الصين التي أصبحت تتصدر دول العالم في الابتعاث الخارجي في أرقى الجامعات العالمية على غرار التجربة اليابانية. قصص النجاح هذه أتمنى أن تقرأها الوزارة بروية، فنحن نمر اليوم بذات المرحلة الانتقالية التي نأمل منها أن نحقق ما حققه الآخرون بسواعدهم الوطنية وبتعزيز الثقة في الخريجين والاستثمار فيهم وتطويرهم ليحققوا وفرة في اقتصاد المعرفة، وإعادة مشروع حوافز المعلمين إلى الواجهة لتحسين الأداء، وهو ما كان معالي الوزير قد وعد به قبل عام. أخيراً، وبالرغم من تحفظي الشديد على «نطاقات» وزارة العمل، أليس من العدالة أن يُطبق على القطاع الحكومي في هذه المرحلة التي يمر بها القطاع الحكومي بهيكلة وتقنين للوظائف طالما نتحدث عن الفوائض في العدد؟ على أقل تقدير نحن بحاجة لدراسة مقنعة تبرر التغيير المحتمل ومدى مساهمته في تحقيق رؤية المملكة 2030، خاصة فيما يتعلق بتعزيز التعليم واقتصاد المعرفة وإنعاش سوق الوظائف.