لفَت نظري عنوان هذا الكتاب، الصادر حديثًا، كونه جاء من ضمن الكتب المائة الأعلى مبيعًا هذا العام. ففي صفحاته حمل إشارات إلى أن سمات بعض الفوضى قد تكون ميزة إيجابية في الحياة، ومؤشرًا للإبداع. وهذا ما يهز الاعتقاد المترسخ عن طبيعة الترتيب البناءة، التي يميل البشر إليها في حياتهم الشخصية والمهنية. وفي هذا الكتاب بحث المؤلف، تيم هارفورد، في علم الأعصاب والنفس والاجتماع، عن تلك العلاقات غير المتوقعة بين صفة الإبداع الإنساني، التي يتفق الجميع على تقديرها، وبين الفوضى. واصفًا الفوضى بأنها جزءٌ لا يتجزأ من الإبداع، وأن الأحداث غير المألوفة، وكذلك الأشخاص الغرباء، يمكنهم أن يساعدوا على توليد الأفكار والفرص الجديدة، حتى لو أثاروا في الشخص الضيق، نتيجة خروجه من منطقة الراحة. وهنا ترجمة لجزءٍ من إحدى المراجعات عن الكتاب: يوضح الكتاب كيف أن الاهتمام بفكرة الفوضى في حياتنا، قد تجعلنا أكثر إبداعًا وإنتاجية، وتساعدنا على تأسيس شركات ومجتمعات ذكية تتسم بالمرونة. ولكن تبني هذه الفكرة ليس سهلاً، كما أنه ليس بالأمر الممتع أو المريح، بل لا يبدو حتى إنه نوعٌ من الأعمال الحقيقية. وفي بعض الأحيان، قد يتطلب حل المشكلة الابتعاد عنها لبعض الوقت، ورؤيتها من مكانٍ بعيد، أو حتى القيام بأي شيء آخر. لقد أخذت شركة «ثري إم» بعضًا من هذه الأفكار، فبدلًا من أن تركز خبرات مهندسيها في مجال واحد، فهي تنقلهم بالتناوب بين الإدارات كل بضع سنوات، بهدف نشر وتلقيح الأفكار في جميع أنحاء الشركة. ولكن هذه الطريقة تواجه رفضًا من شركات متعددة، ناهيك عن بعض الموظفين. فلماذا تجعل شخصا ما خبيرًا في هندسة الصوت أو بالشاشات المسطحة يعمل في قسم أجهزة تكييف الهواء. ولكن شركة «ثري إم» ترى أن الخسارة الحقيقية هي في بقاء الأفكار في رؤوس أصحابها، دون السماح بالانطلاق. في بعض الأحيان، قد تكون «معرفتنا بما نقوم به» سببًا في أدائنا للأعمال بنفس الطريقة مرارًا وتكرارًا، لنغرق في نمطٍ ثابتٍ لا يتغير. كما أن الخبرة يمكن أن تكون عائقًا أمام التطور. لذا فإن الخروج من منطقة الراحة ورؤية الأشياء من منظور مختلف، هما السبيلان الوحيدان لاكتشاف الرؤى والحلول الجديدة، والطريقة الوحيدة لذلك هي الاقتناع بفكرة التنوع. عند التعامل مع مجموعة من الناس، من الأفضل أن نبحث عن الأشخاص، الذين يفكرون بشكل مختلف، أولئك الذين لهم خبرات ومهارات مختلفة، لأنهم قادرون على تقدِّيم الأفكار الجديدة والمفيدة، وحتى لو لم يفعلوا ذلك، فإنهم يستطيعون إخراج أفضل ما لدينا، حتى لو كان ذلك بإثارة شعورنا بالإحراج، الأمر الذي يجبرنا على تطوير ذواتنا، وهذه العملية تحمل تحديًا، يقترب من فكرة الفوضى. إنها تتعارض مع غرائز البشر الطبيعية في الركون إلى الألفة، ولكن أفضل وسيلة لحل المشكلات هو من خلال التنوع المعرفي، ورؤية الأشياء من وجهات نظر ومهارات متعددة، فقد وجدت دراسة أجراها علماء نفس عن آليات التفاعل الجماعي، أن إدخال شخص غريب إلى مجموعة من الأصدقاء يسعون لحل مشكلة ما، جعل هذه المجموعة أكثر كفاءة في التفكير وأقرب إلى الاستنتاج الصحيح. فوجود شخص من خارج دائرتهم أجبرهم على تقييم المشكلة بطريقة أكثر وضوحًا، والدفاع عن آرائهم بعقلانية. ولكن قد تكون هذه الطريقة غير مريحة، وربما تسبب الخلاف، ولكن هذا الخلاف وعدم الراحة سوف يؤديان في نهاية المطاف إلى قرارات ثاقبة ومدروسة بعناية. ويشير المؤلف الى أنه بدلًا من التدريب على مهارات بناء الفريق، فإن علينا تذكر الفوائد المتأتية من الشدِّ والجذبِ، والتأكد من أن فريق العمل مكون من أشخاصٍ مختلفين، وهذا الأمر ينطبق أيضًا على مكاتب العمل التي نقضي فيها أوقاتًا طويلة. يبدو الترتيب غالبًا مؤشرًا على الإنتاجية، وأن التصاميم الانسيابية مساوية للكفاءة. ومع ذلك، حتى عندما يتعلق الأمر بمكان العمل، فقد تكون النتيجة معكوسة. فالمؤلف يخبرنا عن دراسة أجراها علماء نفس وجدت أن إنتاجية الموظفين في المكاتب الحديثة المُرَتبة، والخالية من الفوضى، أقل من الذين يعملون في مكاتب تتسم بالحميمية والراحة أكثر، التي تسمى المكاتب المُعززة. ولكن أماكن العمل الأكثر إنتاجية، هي التي يسمونها المكاتب المُمَكنة، تلك التي يمكن التحكم بمساحتها على النحو المناسب. كانت كفاءة الموظفين في المكاتب المُمَكنة، أكثر من ثلاثين، من كفاءة الموظفين في المكاتب المُرَتبة، ونحو 15 في المائة أكثر من المكاتب المُعززة. ويناقش الكتاب في فصوله التالية أساليب وأنماط العمل، ويدعو إلى عدم انتقاد المختلف منها، حتى عندما يصبح المكتب مبعثرًا وفوضويًا. فألبرت أينشتاين لم يقل أبدًا: «إذا كان المكتب الفوضوي علامة على العقل المبعثر، ماذا نقول إذًا عن المكتب الفارغ». ومع ذلك، تحمل هذه العبارة بعضًا من الحقيقة في فكرة أن المكتب المبعثر هو مؤشر على إنتاجية شخص. ولقد أعجبني فصل «الارتجال»، حين تطرق المؤلف إلى خطاب مارتن لوثر كينغ «لدي حلم». ذلك الخطاب، الذي حمل في البداية عنوان «لن تعود الحياة كما كانت». وكما هي العادة مع خطابات كينغ، فقد تطلب التدريب على إلقائه جهدًا، ولم تكن عبارة «لدي حلم» من ضمن النص، على الرغم من أنها كانت جملة ألقاها أمام تجمعات متعددة في ذلك الوقت. ولكن عندما نَظَر إلى سطور الخطاب الأخيرة، حيث تطلب تلك السطور المكتوبة من الناسِ العودة إلى مدنهم مع «احتجاج خلاّق»، وجد أنها لا تتطابق مع الحالة المزاجية للجمهور. وبدلًا من ذلك، ناشدهم بقوله: «عودوا إلى ميسيسبي، عودوا إلى ألاباما، عودوا إلى كارولينا الجنوبية، عودوا إلى جورجيا، عودوا إلى لويزيانا، عودوا إلى الأحياء الفقيرة في الشمال، واعلموا أنه بطريقةٍ ما سوف يتغير هذا الوضع». وعندما انتهى، بدأ يبحث عن شيء ليقوله بعد ذلك، لتَصيِّح له المغنية ماهاليا جاكسون: «قل لهم عن الحلم، يا مارتن». وهكذا فعل.