كُنا ومجموعة من الزملاء في هذه الصحيفة في دورة صحفية بالعاصمة الأردنية عمان، وبالتحديد في صحيفة الرأي الأردنية، وأعطينا دروسا نظرية وعملية في مختلف الفنون الصحفية، ابتداء بصياغة الخبر، ومرورا بالتحقيق والاستطلاع والحملات الصحفية، وانتهاء بكتابة الرأي، وكان يشرف على تدريبنا أساتذة أفاضل بارعون في إيصال المعلومة بشكل مباشر وغير مباشر، ورغم قصر مدة الدورة التي لم تتجاوز شهرا واحدا، إلا أنها كانت مكثفة، لا يتخللها إلا فترات راحة قصيرة ومدد متفاوتة لأكل الوجبات. ليس موضوع الدورة هو محور حديثي لهذا الأسبوع، ولكنني مازلت أتذكر رد الدكتور على سؤال لأحد الزملاء في بداية الدورة، وهو (كيف أطور صياغتي للخبر الصحفي؟) وكنت أتوقع أن يرد عليه بأن يطور لغته بمعرفة كمية كبيرة من المفردات الصحفية أو قراءة كُتب اللغة أو روايات القاصين أو شعر الجواهري والرابغي وغيرهما! قال له: (اقرأ سورة الفيل) وسكت! وهي الآيات الكريمة «ألم تر كيف فعل ربُك بِأصحابِ الفِيلِ * ألم يجعل كيدهُم فِي تضلِيلٍ * وأرسل عليهِم طيرا أبابِيل * ترمِيهِم بِحِجارةٍ مِن سِجِيلٍ * فجعلهُم كعصفٍ مأكُولٍ». ترك جواب الأستاذ المعلم لنا جميعا علامة تعجب كبيرة، ولم نعرف سببا لاختيار هذه السورة بالذات لنتعلم منها كيفية الصياغة الصحفية، وإيصال المعلومة بعدد قليل من الكلمات، عدت وكان السؤال والجواب مازالا يزاحمان تفكيري مع عدد من المواضيع الأخرى، وقررت بعد فترة أن أبحث في أمهات التفاسير عن معاني وأسباب نزول هذه السورة القرآنية الكريمة، فوجدت بعد فترة أن هذه السورة تجمعت فيها ركائز الخبر الصحفي، وهي: (من هو، ماذا، ولماذا، أين، ومتى)، وإنها وصفت أعظم معركة في التاريخ بخمس جمل وافية مفهومة للقارئ! وأيقنت أنه لو اجتمع أساتذة اللغة والإعلام وكبار القادة العسكريين لوصف تلك المعركة، لاحتاجوا إلى مجلدات لتوصيل المعلومة للمتلقي مدعمة بالصور والمخططات والتصريحات لتصل المعلومة وافية كافية! بدأت بسؤال لمتلقي الوحي محمد -صلى الله عليه وسلم- (ماذا) وتوالت الأحداث وقوة الحرب وعتاده (حجارة من سجيل) وملامح الخطة وأخيرا نتائج المعركة في ثلاث كلمات ضافية وافية (فجعلهم كعصف مأكول) أي كطعام أُكل، وظهر في البراز، وظهر في الروث. فقط انتهى الوصف وتبارك الواصف. تذكرت هذه الحادثة وكتبت هذا المقدمة وأنا أتعجب لدعوات «مبطنة وغير مبطنة» عبر مواقع التواصل وغيرها لتقليص حصص القرآن الكريم في مراحل التعليم المختلفة، والتركيز (كما يقولون) على المواد العملية واللغات. بحجة أنها مطلب السوق ولغة العصر. أعتقد أن مثلهم لا يدركون أن القرآن وهو المنهج والدستور، هو كتاب تصحيح لنطق ومخارج الحروف عند النشء، والدليل أن حافظ وقارئ القرآن أكثر فصاحة وتعبيرا واختزالا للجمل من غيره، وأن قارئ القرآن ومتدبره قوي الحجة لا يتلعثم في المواقف ولا يهتز في الخطب. اتركوهم، واقرأوا القرآن وعلموه لأبنائكم منذ شهورهم الأولى، وسنرى أجيالا من العلماء والأدباء والمفكرين والإعلاميين والشعراء.. والله المستعان.