ضمني مجلس قبل أسبوع مع ثلة من الأصدقاء، وكان الحديث يدور حول الشام وأهلها وما أصابهم من الشدة والبلاء، فطفق بعضهم يذكر ما يعرفه من أخبارهم، سواء حصل له مباشرة أو حكاه آخرون؛ ومما شدني من أخبارهم ما حكاه أحد الأصدقاء وهو دكتور بالجامعة يقول: ذهبت قبل عشر سنوات إلى دمشق ومعي رفقة وسكنا عدة أيام، وفي آخر يوم لنا في الشام أردت شراء بعض الحاجيات من سوق الحميدية بوسط دمشق، فذهبت للسوق ولما دخلته بحثت عن محفظتي فلم أجدها، قلت ربما بالسكن لكنه بعيد، وليس هناك وقت لأننا بعد السوق لدينا موعد للذهاب لبيروت، ففكرت بحل فوجدت أفضلها أنني أطلب من صاحب دكان توسمت به خيرا مبلغا من المال مقدارة 10 آلاف ليرة سوري - كسُلفة-، وقلت له بعد يومين أرجعها إليك بإذن الله، فسألني من أنا؟ ومن أي بلد؟ فأخبرته ثم ذهب وعد المبلغ فسلمني أياه.. فأخذته وأنا لا أكاد أصدق، يقول الدكتور: اشتريت متطلباتي من ملابس ونحوها لي وهدايا للأسرة والأولاد، ثم مررت عليه قلت ضعها عندك حتى أرجع، فرفض؛ لأنه ظن أنني محتاج لها، كذلك ليبين لي ثقته بي، فعلا أخذتها وسرت بطريقي وأنا التفت كل لحظة ورائي ربما تبعني أو يراقبني حتى خرجت من السوق وهو لم يبرح مكانه، وذهبنا لبيروت وبعد ثلاثة أيام رجعنا للشام وأخذت محفظتي وصرفت المبلغ ثم أتيت الرجل المبارك وسلمته بيديه ودعوت له، فتواضع لي وقال: نحن بالخدمة ولم نعمل شيئا، يقول الدكتور: ولا زلت منذ ذلك الوقت حتى الآن أدعو له إذا ذكرته في صلواتي ودعواتي وسجداتي مع أني لا أعرفه وليس لي به علاقة غير أني توسمت به خيرا وأعرف محل دكانه؛ لما سمعت كلام الدكتور عن هذا التاجر الطيب في دكانه من أهل الشام تذكرت كلام أبي - رحمه الله- عن أهل الشام، ووالدي من رجال العقيلات؛ وهم تجار من بريدة وما حواليها من المدن والقرى يذهبون سنويا ببضائع نجد يبيعونها في فلسطين والشام والعراق ومصر، ويجلبون من هناك الميرة والطعام ونحوهما، يقول والدي عبدالله بن محمد الأحمد - رحمه الله- لي: كنا إذا دخلنا الشام لا نحمل طعاما ولا ماء؛ فالطعام نأكله من أشجارها وضيافة أهلها الطيبين الكرماء، والماء متوفر بكثرة ينابيعها وسواقيها بين البيوت وداخلها. هذه المواقف والقصص تظهر دين أهل الشام وأخلاقهم وطيب تعاملهم، وذلك باق في بلادهم وأهلها وأجيالها، فهم من غرر أهل الإسلام فمنهم العلماء، والقادة، والعظماء من عهد الصحابة وبني أمية والعباس وآل عثمان حتى عصرنا الحاضر.. ولا غرو في ذلك ولذا ورد في السنة - عَنْ عَبْدِاللَّهِ بْنِ عَمْرو بن العاص رضي اللَّه عنهما قَالَ: قَالَ رَسُولِ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم-: «إني رأيتُ عمودَ الْكِتَابِ انْتُزِعَ مِنْ تَحْتِ وِسَادَتِي، فنظرتُ فَإِذَا هُوَ نورٌ ساطعٌ عُمِدَ بِهِ إِلَى الشَّامِ، أَلا إِنَّ الإِيمَانَ -إِذَا وَقَعَتِ الفتن- بالشام» (أخرجه الحاكم [8554]، وصحّحه على شرط الشيخين ووافقه الذهبي، وصحّحه الألباني في تخريج أحاديث فضائل الشام). وما يقع الآن من أحداث وفتن على أهل الشام إنما هو تمحيص للناس، وإعداد لأهلها؛ فالله لن يخيبهم ما استقاموا على أمره.. فقد رأى آباؤنا من دينهم وأخلاقهم خيرا.. ورأينا في أجيالهم مثل ذلك.. وسيتناسل المجد فيهم، ويتحقق الوعد لهم، فعن معاوية رضي اللَّه عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «لا تزال طائفة من أُمّتي قائمة بأمر الله لا يضرهم من خذلهم أو خالفهم حتى يأتي أمر الله وهم ظاهرون على الناس» (أخرجه البخاري [3641]، ومسلم [1037]، وزاد البخاري في روايته وأحمد [16932]: فقام مالك بن يخامر السكسكي فقال: «سمعتُ معاذ بن جبل يقول: وهم بالشام»).