لا أسألُ الناسَ عمّا في ضمائرهم ... ما في ضميري لهم من ذاكَ يكفيني «صالح عبدالقدّوس» هناك توقعات بأن أهم المفاجآت التقنية القادمة خلال العقود القليلة القادمة لن تكون في المجالات التقليدية، ولكن الابتكار الأهم يتمثل في جعلنا أكثر نجاحا من خلال فهمنا وإدارتنا لحياتنا العاطفية، من خلال ما يسمى بالتقنية العاطفية، والفضل في هذا كله يرجع للتقدم الحاصل في مجال الذكاء الاصطناعي بوجه خاص. إن الإنسان الآلي القادم لن يكون بإمكانه أن يتفاعل معنا بإظهار أحاسيسه من خلال حركات العين والوجه وباقي أعضاء الجسد، فحسب، ولكن سيكون بإمكانه أن يتعرف على حالتنا النفسية من خلال نظراتنا وتعابير وجوهنا وطريقة كلامنا، بل ومن خلال سرعة التنفس ودقات القلب، وما يجري في أدمغتنا من نشاط. وهذا التطور في مجال الذكاء العاطفي الاصطناعي بإمكانه أن يساعدنا على أن نحسّن بشكل جوهري من مستوى قراراتنا، وإرشادنا إلى الخيارات الأفضل في التعامل مع الناس بشكل خاص. فالذكاء العاطفي هو ما يفتقر إليه الناس والكثير من القادة. فالمسؤول الذي يطلب من موظفيه أن يبصموا خمس مرات في اليوم لتأكيد تواجدهم، وذاك الذي يطلب التبصيم في أوقات عشوائية هما بحاجة أكيدة للمساعدة في هذا المجال، ولو كانا عباقرة في الرياضيات والهندسة. هناك صعوبة في تعلُّم الآلة في المجال العاطفي. فعلى سبيل المثال، الأصوات التي تحمل المشاعر لا تحددها نبرة الصوت فقط، ولكن صفاء الصوت وإيقاعه وسرعته. وتحتاج الشبكات العصبية لاستخراج نحو 1000-2500 من خصائص الصوت. وهذا العمل يبطئ من عملية التعرف على المشاعر كلها، حيث يتم تصميم هذه الآلاف من الخصائص بعناية من قبل البشر. وكل واحدة منها تحتاج وقتًا للمعالجة. ولكن التطور الهائل في سرعة الحاسوب وكمية البيانات الهائلة التي تستخدم للتعلم، قد أدت إلى تحسن كبير في تعلم الآلة، وساعد على إيجاد ما يسمى بالتعلم العميق، الذي يتعرف على الخصائص بشكل آلي خلال عملية التعلم، دون تأخير، ودون الحاجة لأن تُحدد هذه الخصائص من قبل الإنسان. لعل أهم دور قد يلعبه الذكاء العاطفي الاصطناعي هو في مجال التعليم. فالتعليم يشكو من قصور حاد نتيجة جهلنا في معرفة الأشياء التي يحسنها كل فرد من الناس، وفِي معرفة ماذا يريد أن يتعلم، وما هو الوقت والطريقة التي تناسبه بشكل أفضل. وفي الواقع، فمشكلتنا في التعليم تتجاوز أسوار المدارس بكثير لتشمل جميع مراحل الحياة، حيث نتعثر في علاقاتنا مع أهلنا وأصدقائنا وزملائنا في العمل بسبب القصور لدينا في التعلم. وقد يساعدنا الذكاء العاطفي الاصطناعي في إخراج أفضل ما لدينا لنتجنب الوقوع في أخطاء القرارات العلاقية. وبالإضافة إلى حاجتنا إلى مساعدة الذكاء العاطفي الاصطناعي لنا في فهم أنفسنا، وفهم أمزجة الآخرين، وتعزيز قدرات التواصل معهم، فنحن بحاجة إليه في مساعدتنا في البحث عن مجال العمل المناسب لنا، حيث فشلت جهود علم النفس في إرشاد الناس للوظائف المناسبة لهم. ويحضرني في ذلك، أن أحد الزملاء الأكاديميين قد حاول أن يجرب تعبئة استبانة من قياسات علم النفس، فظهر له أن أفضل وظيفة مناسبة له، هو أن يكون ممرضًا! في مؤتمر للبنى المعرفية في نيويورك (2016م)، اقترح «اليكسي سامسونوفيتش،» وهو أستاذ في قسم علم التحكم الآلي في معهد موسكو للفيزياء الهندسية، اختبارًا متعدد الأجزاء، يشمل الإنسان والآلة المتفاعلة معه. ويلعب الجانبان ألعابًا تنطوي على العمل الجماعي، والثقة، والخيانة وأساليب مختلفة للتواصل الاجتماعي. فإذا كان الذكاء الاصطناعي بارعًا في تعاطفه، فإنه سيبني رابطًا مع الإنسان، الذي قد يؤْثِر في نهاية المطاف مصلحة الذكاء الاصطناعي على مصلحته. ومن ثم يطبق على الإنسان والآلة اختبار «تورينغ» المعروف، والذي يحدد مدى تفوق الآلة على القدرة البشرية. ويهدف هذا العمل إلى السعي لجعل الذكاء الاصطناعي يستجيب عاطفيًا واجتماعيًّا، وقادرًا على التفكير والتعلم مثل البشر، وهذا يعني وجود آليات مثل القدرة على تحديد الأهداف بشكل مستقل، وتوليد المشاعر، والحفاظ على العلاقات الشخصية. وفي اليابان، أنتجت شركة سوفت بانك روبوتيكس «بيبر»، وهو أول إنسان آلي يملك «قلبًا» ويحتوي على 200 تطبيق تساعده على التعرف على مشاعر الناس والتفاعل معها. وقد جن الناس به، واشتروا نحو 1000 منه في أول لحظة عرض. وتبلغ تكلفته نحو 1,600 دولار بالإضافة إلى 200 دولار تدفع شهريًّا للتأمين وتغذيته بالمعلومات. ويملك «بيبر» قدرة على قراءة تعابير الوجه ومعرفة حالة الإنسان النفسية من خلال نبرة صوته. وتم استخدام «بيبر» فعليا في عدد من مجالات العمل المختلفة بما فيها المستشفيات. وفي جامعة إم آي تي الامريكية، تمكن الباحثون من إنتاج إنسان آلي يستطيع التعرف على مشاعر الناس من خلال موجات الراديو. وكانت توقعات الجهاز دقيقة بشكل مذهل، حيث بلغت نسبة صحة تنبؤاته بالوضعية النفسية للشخص نحو 87% من الوقت. يبدو أن العالم مقدم على تحول جذري سيجعل من الذكاء العاطفي بضاعة شائعة ورخيصة أيضًا. فالقادم بسبب التقدم الهائل في مجالات الذكاء الاصطناعي سيجعل من الحكمة سلعة متوفرة للجميع. ولكن في الجانب الآخر، إذا سلمنا بأن الذكاء الاصطناعي سيكون قادرًا على إنتاج إنسان آليٍّ ذي مشاعر وعواطف، فما الذي يمنع الإنسان الآلي من أن يتعلم المشاعر السيئة من البشر، فيُظهر غير ما يبطن، ويجبن، ويكذب، ويداهن، ويتحايل على الآخرين؟