«لا أستخدمُ كلَّ ما لديَّ من عقلٍ فحسب، وإنما أستخدمُ كلَّ عقلٍ أستطيعُ استعارتَه». «ودرو ويلسون» لقد بدأت الخطوط الفاصلة بين ما ينتجه البشر وما تنتجه الآلة في الاضمحلال تدريجيا، وسوف تتلاشى قريبًا، بل ستصبح الغلبة للذكاء الاصطناعي في كثير من المجالات. فعندما يقوم البشر بالمهام التي لا تستطيع الآلة القيام بها حتى الآن، فإنهم يقدمون بطريقة غير مباشرة بيانات تدريب للذكاء الاصطناعي لكي يتعلم ومن ثم يتفوق عليهم. وبعبارة أخرى، فإننا نعمل بثبات لكي لا تصبح لنا قيمة في المستقبل. ورغم أن الذكاء الاصطناعي قد قدّم لنا مركبات ذاتية القيادة، وفاز على أمهر الناس في ألعاب شديدة التعقيد، وساهم مساهمة متميزة في مكافحة السرطان، لكنه بقي يتأرجح في مجال التواصل مع البشر. ولكننا اليوم نشهد قفزة واسعة في تمكين الذكاء الاصطناعي من اللغة. فهناك جهود هائلة لتمكين الآلة من فهم الكلام والتخاطب نصيا وصوتيا مع الإنسان، والمساهمة في كتابة النصوص في اهتمامات متعددة. هذه هي البداية والقادم أفضل بالتأكيد، حيث يبدو أنه لا توجد هناك مهنة في مأمن من الذكاء الاصطناعي، ليحل فيها محل الإنسان. ولعل دور الكاتب الصحفي هو من أهم الأعمال التي بدأ يقوم بها الذكاء الاصطناعي. فاليوم، تستخدم وكالة أسوشيتد برس برنامجًا لتوليد قصص إخبارية بناء على التقارير المالية التي تنشرها الشركات. في حين تستخدم ياهو تقنية مشابهة لإنشاء تقارير رياضية تصمم بشكل شخصي لكل واحد من مستخدميها. ولدى صحيفة لوس أنجلوس تايمز، برنامج يعدُّ تقارير الأخبار العاجلة حول الزلازل. ولكن يمكن أن يبرمج بسهولة لكتابة قصص عن أشياء أخرى مشابهة. وهناك إنسان آلي اسمه «إيما» (Emma) طورته شركة ستيلث (Stealth) بهدف تقديم الخدمات المهنية مثل البحث والتحليل في مجال الصحافة. ويوجد لدى إيما فريق من المدربين البشر، ولكن المخرج النهائي هو من إنتاجها. ولم يقف دور الذكاء الاصطناعي عند كتابة القصص الصحفية، بل تجاوز ذلك بكثير. لقد تنبأ خبير الذكاء الاصطناعي «راي كرزويل» بأنه في العام 2029م سيتغلب الذكاء الاصطناعي على أذكى إنسان. ويقول البروفيسور المهتم بالمستقبل «كيفن وارويك» أنه بإمكان الذكاء الاصطناعي أن يكتب رواية ممتعة. فقد أنجز البروفيسور «فيليب باركر» في كلية إنسياد لإدارة الأعمال برنامجًا ذكيًا قادرًا على تأليف أكثر من 200,000 كتاب في مواضيع مختلفة. وفي أحد مشاريع غوغل، تم تغذية الذكاء الاصطناعي باكثر من 11,000 كتاب غير منشور، منها 3,000 كتاب ذي طابعٍ رومانسي. وكان نتيجة ذلك، أن جادت قريحة الذكاء الاصطناعي بأبيات شعر حزينة. في حزيران 2015م، طور فريق آخر في غوغل إنسانًا آليًّا متحدثًا، أدهش صانعيه. فقد تعلّم الإنسان الآلي فن المحادثة عن طريق تحليل الملايين من نصوص الأفلام. فأصبح يتأمل في معنى الحياة، وينزعج من لون الدم، ويتحدث عن الأخلاق، وأحيانًا يغضب من محدِّثه البَشَري. فعندما سئل عن معنى الحياة، أجاب الجهاز الآلي: «أنْ تعيش إلى الأبد». وكان أول إنتاج للذكاء الاصطناعي من الروايات الخيالية في العام 2008، عندما طبعت دار نشر روسية رواية من 320 صفحة باسم «ترو لوف» وكانت من إبداع الذكاء الاصطناعي بمساعدة فريق من المختصين بتقنية المعلومات. أما مشروع الذكاء الاصطناعي المسمى «بنيامين،» فقد استطاع كتابة سيناريو فيلم خيالٍ علمي قصير اسمه «صَن سبرينغ» وكان من إنتاج الباحث في الذكاء الاصطناعي بجامعة نيويورك «روس غودوين» والمخرج السينمائي «أوسكار شارب» وقد شارك الفيلم في مهرجان لسينما الخيال العلمي بلندن، الذي يطلب إنجاز الفيلم خلال أربع وعشرين ساعة، ضمن معطيات معينة. وعندما سأل صحفي بنيامين: هل أنت المؤلف؟ أجاب: «نعم، كنت أعرف ما أتحدث عنه» وعندما سأله عما إذا كان يرغب في الانضمام إلى نقابة الكتاب الأمريكيين، كان جواب بنيامين حاسمًا: «نعم، أود أن أراك في النادي غدا». وشارك برنامج الذكاء الاصطناعي الياباني في تأليف رواية اجتازت المرحلة الأولى من الفرز لجائزة أدبية وطنية. وكان المشروع بقيادة «هيتوشي ماتسوبارا» وفريقه في جامعة المستقبل بمدينة هاكوديت في اليابان، الذين قاموا باختيار كلمات وجمل، وتحديد ضوابط لبناء الرواية قبل السماح للبرنامج بكتابتها بشكل مستقل. ورغم أن الرواية لم تفز بالجائزة، فإنها لم تكن بعيدة عن الفوز، علمًا بأن المحكمين للجائزة لم يكونوا على علم بأن الرواية من إنتاج الذكاء الاصطناعي. وهناك مشروع لشركة غوغل بالتعاون مع جامعتي ستانفورد وَماساتشوستس يعنى بتطوير القدرات اللغوية للآلة. واُكتشف بالصدفة أن البرنامج قادر على نظم شعر رومانسي من خلال تلقيمه بمقاطع من رواية رومانسية. وقد لا يكون مستغربًا أن نجد خلال سنوات قلائل برنامجًا ذكيًا يتفوق على الخليل بن أحمد الفراهيدي في معرفة بحور الشعر وأوزانه وقوافيه، ويحاكي المتنبي في براعته اللغوية. وربما لن نحتاج في المستقبل إلى أن نستمع إلى شاعر مادح مسترزق ضحل الثقافة يثير الملل، فالإنسان الآلي قد يكون أكثر بلاغةً وصدقًا وأدقّ وزنًا وأحسنَ إلقاءً منه. وقد يقاطع الشاعر الآلي شاعرنا المتملق وهو يلقي قصيدته، ويصحح له صفات الممدوح. وقد يطالب بالجائزة بدلا منه، ولسان حاله يقول ما قاله المتنبي: أجِزْني إذا أُنْشِدْتَ شِعراً فإنّمَا... بشِعري أتَاكَ المادِحونَ مُرَدَّدَا وَدَعْ كلّ صَوْتٍ غَيرَ صَوْتي فإنّني أنَا الطّائِرُ المَحْكِيُّ وَالآخَرُ الصّدَى