أول معرفتنا بالشاعر المصري الكبير فاروق شوشة الذي رحل عن دنيانا مطلع الأسبوع الجاري كانت من خلال كتابه المُمَيّز «أحلى 20 قصيدة حبّ» الذي اشتمل على قصائد غزلية مُختارة، من أبرز وأجمل القصائد العربية الخالدة التي تتردّدُ على أَلْسِنة العرب قديما وحديثا، وفي كل مكان.. وقد بدأها بالشاعر الجاهلي «المُنخِّل اليَشْكُري» مرورا بعمر بن أبي ربيعة فالعباس بن الأحنف فالشريف الرضي وابن زريق وصفي الدين الحلي وابن زيدون وعلي محمود طه وانتهاء بالشاعر المصري محمود حسن اسماعيل. والغريب أن الكتاب خلا من شعراء عراقيين وسوريين ولبنانيين كتبوا في الغزل بشكل لافت وشهير كعمر أبو ريشة وبدر شاكر السياب والأخطل الصغير وغيرهم. وكان يمكنه- رحمه الله- الاكتفاء من كل عصر بشاعر واحد حتى يغطي معظم العصور والبلدان، في حين أن الكتاب تضمن أكثر من شاعر في عصر واحد، وأكثر من شاعر في بلد واحد.. المهم أن هذا الكتاب يُعَدّ من أبرز الكتب العربية التي صدرت في القرن العشرين، وأننا استمتعنا بأحلى 20 قصيدة حب عربية.. كما أنه من أبرز الآثار لهذا الشاعر الأديب. وقد بلغت طبعات هذا الكتاب منذ صدوره عام 1973 حتى 2014 م: ست طبعات، والطبعة التي لدي هي الثانية (1979)، وأتذكّر أنني ابتَعْتُ منها عددا من النسخ وأهديتها لبعض المعلمين والأصدقاء في المرحلة الثانوية، ومنه حفَظتُ عن ظهر قلب عددا من عيون القصائد كقصيدة «صلوات في هيكل الحب» للشاعر التونسي أبي القاسم الشابي: «عذبة أنتِ كالطفولة كالأحلام، كاللحن، كالصباح الجديد»، وقصيدة أبي فراس الحمداني: «أراك عصي الدمع شيمتك الصبر»، وغيرهما من القصائد الشهيرة. ولقد فتح أستاذنا فاروق شوشة- رحمه الله- بهذا الكتاب منذ وقت مبكر كُوّة لطيفة تُحَبِّب الناس في قراءة الشعر، وحِفظِهِ والتغني به حتى ممن لا يحب القراءة أو الشعر، وذلك من خلال شرحه ومقدماته التي كتبها لكل قصيدة، ومن انتقائه لهذا التراث الشعري الجميل، سيما أن الغزل باب محبوب ومقبول من لدن معظم الطبقات من الناس.. وأصعب الأشياء أن تختار نصوصًا أو قصائد من ذائقتك لتجعلها بين دفتي كتاب.. إلا أن تكون ذائقتك- بالطبع- في حال ومستوى الشاعر الكبير فاروق شوشة الذي لم يقم بإصدار هذا الكتاب إلا بعد معايشة كثيفة وتجربة عميقة، وقراءة متواصلة، وموهبة غزيرة وحسّ أدبي رفيع. وتواصَلَتْ إبداعات ودواوين وكتب وبرامج شاعرنا الراحل الذي أحزننا فقده وتخصص في جماليات وأسرار اللغة العربية، فهو صاحب البرنامج الإذاعي «لغتنا الجميلة»، الذي جمع بعض حلقاته وأصدرها في كتاب، وكذلك مقالاته «جمال العربية» التي ساهم بها لسنوات عديدة في مجلة العربي الكويتية، ولكن بعرض وتعريف للشعراء العرب من كل العصور، وآخر ما نُشر له في هذه السلسلة في المجلة المذكورة هو: «أحمد شوقي والنيل بين ملك الملوك والنجاشي» عدد أغسطس 2016. وعلى المستوى الشخصي فقد الْتقيته أكثر من مرة في الرياض والكويت والقاهرة والشارقة ومراكش، وهو مَن حرّضني على كتابة مقدمات ومناسبات قصائد ديوان «قوارير»، وكذلك حرضني على نشر مقدمة هذا الديوان الطويلة وقد استجبت لاقتراحيه السديدين وأصدرتُ الديوان بمقدمته التي ذكرته فيها. واللافت للانتباه أن أغلب من يتناول موضوع اللغة العربية من عشاقها يكون عرضة للأخذ والردّ والتوافق والتنافر- وللتنافر معه أقرب- لأن الآراء فيها تتباين، وتتلاطم كبحورها.. ودونك ما يثار بين فترة وأخرى حول سيبويه، وابن جني والثعالبي وأبناء «الخازن» اللبنانيين المختصين في اللغة العربية وغيرهم، ولدينا في المملكة عدد كبير من الحاذقين فيها، وبها أبرزهم الدكتور أبو أوس الشمسان.. لكننا لم نجد ما يثار حول الشاعر فاروق شوشة في هذا الموضوع.. بل عاش حياة هادئة دون «شوشرة» من «المتحذلقين» وصائدي الهفوات، كما أنه نال- حتى وفاته- احترام الكثير من المختصين في كل أنحاء الوطن العربي. وبالطبع فإلى جانب ذلك كله إبداعه الأدبي، ودواوينه الشعرية المتعددة وإلقاؤه الإذاعي المتميز وهدوؤه الرائع، رحم الله الشاعر العربي الكبير فاروق شوشة.