في إحدى الخطب، قال رجلُ دين، ما نصه «إن هويتنا وثقافتنا تتعرض لهجومٍ خارجي، وعلينا إغلاق الأبواب والنوافذ تحسباً لها»، وذلك في معرض حديثه عن وسائل التواصل الاجتماعي، والأثر الذي تتركه على هوية الجماعة وخصوصيتها. فهل نظرية إغلاق الأبواب والنوافذ على ذواتنا ممكنة؟ وما سر الحرص الشديد على الهوية؟ لكل مجتمع سمات خاصة به، ولكي تكون ثمة هوية جامعة ومتماسكة، لا بد أن يكون لها طقوسها الخاصة، وأن يكون لها هوية مقابلة تقارن بها، وتتمايز عنها، وإلا فقدت الهوية خصوصيتها، وذابت في هوية أخرى. إن ما يميز العصر الحديث، هو سيلان العادات والتقاليد وانتقالها السلس من مجتمع لآخر، بحيث لم يعد في إمكان أحد وقف التفاعل الثقافي والهوياتي، مهما امتلك من أدوات تأثير، وذلك يعود لمنتجاتِ العولمة وما خلّفته من نوافذ وأبواب مشرعة، فنحن نعيش عصر صراع الهويات. لا يشكل واقعنا المعاش انعكاساً مطابقاً تمام التطابق مع الماضي الذي عاشه أجدادنا. لكن حاضرنا مرتبط ارتباطاً عضوياً بما يتوارثه الأجيال من هوية، فينصهرون فيها بوعي، أو بلا وعي، لا فرق، حيث يكون الفرد بين خيار الاستسلام لها، كما هي، أو التفاعل معها والسعي لتغييرها. ينطبق هذا القول على الهويات الدينية، التي تورثُ جيلاً بعد جيل، وهي غالباً ما تجد حراسة شديدة على طقوسها، من قبل رجال الدين، الذين يشعرون بأن فقدان هذه الشعيرة يهدد وجودهم، ليس فقط لكونها ممارسة يتقربون بها إلى الله، ولكنها عنصر تمايزهم الوحيد عن الآخر، فالطقوس قد تمارس كعبادة، وقد تمارس كنوع من الخصوصية والانصياع لهوية الجماعة، وإن دونما إيمانٍ، وهذا الآخر الذي تجري المنافسة معه على أشكال الطقوس وطبيعتها، ليس بالضرورة من ديانة أو مذهب مختلف، فقد يكون الجميع من طائفة واحدة يتنافسون على شرعية تمثيلها أمام بقية الطوائف. إن الصراع الهوياتي يأخذ مداه الأقصى، حين تكون الهوية في حالة حركة شديدة وغير مستقرة، وبالتالي فإن جميع التيارات الدينية تتنافس على صناعة التأثير الأكبر، أو الاستئثار بتشكيلها، إن أمكن. حينما ينظر شخص ما لطقوس أو عقائد الآخرين من الخارج، أو يستمع للنقاش الدائر حولها، قد يتساءل عن السبب وراءها، أو لماذا تأخذ كل هذا الحيز من النقاش، رغم كونها قضية هامشية، أو أن يسعى لفهمها فهماً عقلانياً، بمعنى أن يبحث عن سبب منطقي لوجودها، ثم لوجود السجال الحاد حولها، في حين، إن الطقوس، إما أن تكون عقيدة، فتمارس كعبادة بالنسبة للبعض، أو أن تياراً دينياً ابتكرها وحولها لأحد عناصر تمايزه عن الآخرين، وهو يسعى للمنافسة في الساحة من خلالها. إن نظرية «إغلاق الأبواب والنوافذ» غدت مستحيلة. ذلك أن كل جماعة مذهبية لها خصوصيتها، لكن هذه الخصوصية تتعرض لعوامل خارجية مؤثرة بشكل مستمر، بسبب التفاعل مع العالم. لذا فإن الدفاع عن الطقوس، أو الهجوم عليها، جزء من الصراع على هوية الجماعة.