منذ الحرب العالمية الثانية لم تشهد القارة الأوروبية حربا، باستثناء حرب البلقان الثالثة التي بدأت مع استقلال عدد من الجمهوريات عن السيطرة الشيوعية، واستمرت بين عامي 1991-1999 وانتهت بتدخل حلف شمال الأطلسي بشكل حازم ضد الصرب لتطهيرهم وقمعهم للمسلمين في اقليم كوسوفو. لم تحتمل أوروبا أن تدخل الألفية الثالثة بحرب داخلية، فالسيادة بين الدول انهت الخصومات القتالية الحربية وجعلتها تحدث خارج القارة، ولم تكن تقبل مع بدء مشروع الوحدة الأوروبية أن تظهر بشكل الدول المتخلفة في إدارة الصراع، وعلى مدار عقد كامل من الألفية الثالثة نجحت اوروبا في طي خلافات التاريخ الثقيلة بين دول القارة. وتوحدت عبر اليورو وعبرت عن تفوقها الثقافي بدعم مشاريع علمية بحثية بالشراكة بين باحثي القارة وباحثي الشرق الأوسط، وخصصت عدة منح علمية عبر مشروع «ايراسموس موندوس» البرنامج الممول من الإتحاد الأوروبي والذي غايته تقوية التعاون الأوروبي والروابط الدولية في ميدان التعليم العالي بالسماح لطلاب العالم بأسره بإجراء دراساتهم في مؤسسات التعليم العالي الأوروبي. لم تحدث أوروبا تغييرا يذكر في سياساتها نحو الشرق، بل ظلت برغم مد يد التعاون العلمي والثقافي تدور في الفلك الأمريكي، وفي النظرة الغربية الرأسمالية للشرق، لا بل في غضون عقدين ونيف من الألفية الثالثة كانت أوروبا مشاركا فاعلا فى تأزيم المنطقة العربية وتفكيك الدول فيها وعلى رأسها العراق وسوريا. وحين انفجر الشرق بعد العام 2011 بدأت أوروبا تتراجع عن حضورها فيه، ونتيجة لسياسات الغرب في المنطقة وفشل الدول في الشرق الأوسط وافريقيا عبر المهاجرون إلى القارة العجوز بحثا عن مصير أفضل، مما جعل افكار التيارات المحافظة في عدة دول غربية تعود من جديد، ليس لأن هذه التيارات اكتشفت اليوم خطر الهجرة، بل لأنها ترى فيها ثوبا إسلامويا قد يؤثر فيها. فكيف تواجه أوروبا أزمتها الراهنة؟ هل باتت أمام عودة للنموذج الغربي المتشدد، في ظل صعود اليمين؟ ربما هو المآل الذي باتت محكومة به الصورة الأوروبية الجديدة في شكل عودة الأحزاب ذات النزعة السلطوية القومية المتشددة، وهو ما عكسته الانتخابات الألمانية الأخيرة وهو ما يفسره الزعيم السياسي الفرنسي اليساري جون لوك ميلونشون والذي يرى «أن اليمين ظاهرة تعم كامل أرجاء أوروبا وذلك جراء أزمة إنسانية عارمة مصدرها عدم مشروعية النظام الرأسمالي العولمي الذي تقوده أمريكا اليوم». عمليا بدأت العودة منذ انهيار الاتحاد السوفيتي أوائل تسعينيات القرن الماضي، لكنها لم تتطور إلا العام 2008 جراء ظهور وتزايد أزمة هجرة المسلمين لأوروبا، وآنذاك أعلنت أحزاب من اليمين المتطرف من دول أوروبية في مدينة أنفير البلجيكية تأسيس منظمة جديدة تهدف إلى مكافحة ما سمته «الأسلمة» في أوروبا. وقدمت المنظمة الجديدة واسمها «المدن ضد الأسلمة». ولكل دولة في أوروبا عوامل ظهور اليمين فيها ومرجعيته، ففي فرنسا يعتبر اليمين توجها ممثلا بحزب الجبهة الوطنية ذي الإتجاه المعادي للمهاجرين وكل ما لا يدعم الثقافة العامة الفرنسية، وفي إيطاليا يعد اليمين اتجاها سياسيا ورث النظريات الفاشية للفاشيين القدامى بزعامة موسوليني، وفي ألمانيا يرتكز اليمين لمفاهيم محافظة تعود للحقبة النازية. وهي في بلجيكا نشطت منذ أواخر السبعينيات في شكل تطور إلى حزب الرابطة الفلامندية عام 1978، وجلّ الاحزاب اليمينة تعود إلى نزعة الدولة القومية التي ظهرت في أوروبا في زمن الأنوار. إن ما يجمع اليوم بين كل الأحزاب اليمينة في أوروبا هو معاداة المهاجرين المسلمين ورفضهم، باعتبارهم يمثلون خطرا على المجتمعات الأوروبية، ولعل ما أظهره الاستطلاع الألماني الأخير من ارتفاع لتأييد الألمان لحزب البديل الألماني «إيه آف دي» المعارض للاتحاد الأوروبي والمناوئ لعمليات إنقاذ اليورو إلى أقصى درجاته هذا العام وانخفاض المؤيدين لحزب انجيلا ميركل الاتحاد المسيحي، هو مؤشر على أن ألمانيا أكثر الدول المتحمسة أوروبيا لاستقبال المهاجرين تدفع فيها السلطة السياسية ثمار ذلك التعاطف. قبل عام وفي شهر تشرين الأول 2015 عاد حزب «الفجر الذهبي» اليوناني المتشدد ليحصد تأييدا هو الأكبر منذ عقدين ليحل ثالثا في البرلمان، وهو ما يؤكد أن قضية المهاجرين تعتبر شعلة العودة للنزعات المتشددة في الدول التي تستقبل مهاجرين. في المحصلة أوروبا اليوم تضيق بالمهاجرين، وتنحو نحو الانغلاق أكثر وتتوجس من الشرق أكثر، وبالرغم من إصرارها على أنها تعرفه جيدا فتأتي لتحارب فيه وتتدخل في مصائره، إلا أنها منذ العالم 1920 حيث رسمت خرائط الدول في الشرق الأوسط، ما زالت تجهل الواقع العربي ولا تعيه ولا تدرك أن أخطاءها فيه قد تصيبها بشكل أو بآخر. وها هي اليوم تدفع ضريبة ما صنعته منذ وعد بلفور المشؤوم وحتى اليوم.