اتصل بي أحد الأصدقاء وفي أثناء حديثنا أخبرته عن صديق يريد الانتقال والإقامة خارج الوطن بقية عمره، فقال لي صديقي: «لا يمكن ان أفعل ذلك، كل ذرة من تراب الوطن لها حق الوفاء علي ببقائي طوال عمري في هذا الوطن». هذا الصديق ومثله ملايين المواطنين حتى تراب الوطن لهم قصة عشقٍ ووفاءٍ معها، قد لا يستطيع الكثير منهم التعبير عن هذا الحب والتفاني، كما فعل صديقي، ولكنهم قد يمنحون هذا التراب أرواحهم النفيسة بصمت لا يشعر به أحد! مرت مناسبات اليوم الوطني علينا في الأعوام الماضية بشكل تلقائي لا نشعر بها أحيانا إلا عند توقفنا في إجازة أو خبر في الصحافة الرسمية أو احتفالية أعدت بطلب رسمي لإقامتها، وقد يتفاعل البعض معها، وأحيانا تمر هذه المناسبة ولا يعلق في الذاكرة سوى متعة الاجازة ونمطية الاحتفال، بينما روح اليوم الوطني وفكرته لا تزال في غياب غير مقصود وليس وراءه أي نكران لحق الوطن، ولكن تراكم أعوام من نمطية التعامل مع الوطن جعلت هناك تهميشا لهذه المناسبة واستحياء أن نفرح بالوطن أو يفرح بنا، أعلم أن الكثير سيرجع السبب إلى الخطاب الديني والصحوي في توليد هذا الشعور البارد تجاه الوطن، وأظنه سبب ضمن حزمةٍ أخرى من الأسباب والعوامل التي لا نلتفت إليها، لأن في عمقنا رغبة دائمة للتفلت من أي مسؤولية من خلال إلقاء اللوم على الآخرين فقط، بدليل أن ابن البادية والقرية ممن عاشوا بعيدا عن مؤثرات الصحوة لا يملكون رغبة الاحتفال بيوم الوطن، وحتى ذاك التاجر الكبير ورجل الأمن المخلص في عمله ممن تجاوزوا الأربعين كثير منهم لديهم نفس الشعور. دعوني لأبحث معكم أسباب هذا العزوف الشعوري، لاعتقادي من خلال تأمل ونظر أن هناك روابط شعورية أخرى ساهمت في خلق هذا البرود الوطني امتدت لعقود من الزمن جعلت الوطنية على رف الحاجة عند الاستدعاء، فمن ذلك، العلاقة التي تجسرت بين المواطن ومصلحته الخاصة التي لا يقيم لغيرها أي وزن واعتبار، وشاهد هذا المواطن أن الجميع حوله وفوقه يمارسون ذات العلاقة بشغف دون اعتبارٍ لمحضن هذه المصلحة ومنبعها وهو الوطن، كما أن ارتباط الولاء بين المواطن ووطنه ترسخ عبر الأشخاص، ومع أهمية الرمزية لولاة الأمر في هذا الولاء والحب، إلا أن الوطن يجب أن يكون فوق الجميع مصلحته وحاجاته والدفاع عن ترابه، وكل مسؤول يجب أن يعلم يقينا أن منصبه يملي عليه أكثر من غيره تعاملا شفافا وعالي الوضوح مع وطنه، وما لم يكن بيننا رموز قديرة تمارس عمليا شعورها الوطني وإلا فلن تجدي كل الخطب والأناشيد الوطنية في زرع هذا الحب والشغف بالوطن، فسعي المواطن لنقل أمواله للخارج والحصول على جنسية أخرى مهما كلفه الأمر، والتأفف الدائم من خدمات وطنه وشعبه، أليست ممارسات محبطة سرعان ما تتحول إلى تيار بارد ينتشر بين الآخرين، ويصبح المواطن (الطيب) في ظل هذه الأجواء المادية، مثالا للحمق والغفلة؟!. أعلم أن فتح ملف الوطنية وأسباب ضعفها عند الكثير، يشعرنا بالألم والضيق، ولكنه الواقع الذي لا يمكننا تجاهله أو تغطيته بالاحتفالات الرسمية، وطننا كبير وعظيم بثقله الرمزي والتاريخي، وفيه خصوصية ليست لدى أي بلد في العالم، ومهما بذرنا حب الوطن في النفوس فإن حاجته لسقيا الماء أكيدة لتنبت واقعا مشاهدا يلمسه الجميع، وكم أتمنى ونحن على أعتاب احتفالية اليوم الوطني أن نتوقف عن الشعارات الباردة والتي أصبح بعضها مبتذلا وللأسف، ونجعله يوما للمبادرات العملية المتجددة ليستمر يومنا الغالي طوال العام.