في هذه المرحلة الخطيرة من تاريخ الأمة، حيث تصادر اوطان وتنهار كيانات عربية، وتشتعل الحرائق في عموم المنطقة، منذرة بتشرذم وتفتيت أكبر، فإن شكل المواجهة، لا ينبغي أن يقتصر على نمط واحد. والبداية ينبغي أن تنطلق من التصدي للحواضن والقواعد الفكرية للتطرف والإرهاب. وهي قواعد تعمل على استحضار روح الهويات الصغيرة، ما قبل التاريخية، وتغليبها على الهوية الجامعة، التي تمثل الانتماء للأمة ركنها الأساس. وقد شاءت حقائق التاريخ، أن تكون اللغة العربية، منذ البداية، الأساس في تكون الأمة، وبالتالي في بروز الهوية العربية الجامعة. وكان ذلك المدماك الذي أسس للحضارة العربية الإسلامية، اللغة بشكل مبسط، هي بالتوصيف العلمي، نظام له وظيفة وغاية محددتان هما التعبير والتواصل. وتعتمد اللغة على وسائل معينة لبلوغ أهدافها. وحين ناقش أفلاطون موضوعها تصدى لمعالجة علاقة الأشياء بالأسماء، فأكد على أن الاسم انعكاس وتعبير عن المسمى، وهو مشتق من مكوناته وتركيباته. بمعنى أن الدال باستطاعته محاكاة المدلول والتعبير عنه. وذلك يعني أن علاقة اللغة بالأفراد الناطقين بها ليست مجرد عرف وتقاليد، ولكنها علاقة عضوية إذ أن الكلمات والجمل في حقيقتها تعبير غير ساكن، كونها تعبر عن صورة الأشياء في زمان ومكان محددين... وبالتالي فان الصيغ اللغوية هي تعامل وتفاعل مع بيئة محددة بذاتها. وعلى هذا، فاللغات ليست سابقة على التاريخ أو صانعة له. بل هي نتاجه. ذلك أن المجتمعات التي تشعر بهوية واحدة تقوم بصياغة لغة خاصة، تحقق من خلالها تواصلها، مع المجتمعات الأخرى، وتمكنها من التعبير عن ذاتها، كي تمارس إبداعاتها وعطاءاتها الإنسانية، ولتميز بين هويتها وهويات شعوب الأمم الأخرى. لكن ذلك ليس نهاية المطاف، ذلك أن التفاعل الإنساني الذي يحدث بسبب تمازج حضارات مع بعضها البعض، يمكن أن يؤدي إلى انتشار لغة الحضارة المهيمنة في بقاع جديدة، غير تلك التي انبثقت منها. مساهما في خلق واقع موضوعي جديد ينتج عنه هزيمة البنية الاجتماعية السائدة من قبل، وقيام أخرى على أنقاضها. وهو بالدقة ما أدى إلى تطور الوعي العربي لمفهوم الهوية. فقد تزامن هذا الوعي، بهزيمة متدرجة للقبيلة كعامل أساسي في صنع الهوية، وتصاعد لدور اللغة كعامل حاسم في الانتماء إلى الأمة. وقد بدأت هذه التطورات في أخذ مكانها مع نجاح الحركة العباسية. وكانت مشاركة الفرس فيها، وانطلاقها من بلادهم إيذانا باندحار العصبية القبلية، ونجاح فكرة التأكيد على المساواة ورفض التمييز. وتزامن ذلك مع بداية النهضة العلمية والحضارية التي شهدتها دولة الخلافة، وتصاعدت بتوسع رقعتها الجغرافية. حيث تحولت المراكز العربية إلى مجتمعات حضرية ومراكز للثقافة، وبرزت مدينتي بغداد والبصرة كأكبر مركزين علميين في ذلك العصر، وأصبحتا قبلتين يحج إليهما طلاب العلم من كل أصقاع الأرض. في المدن عاود العرب ممارسة التجارة، حرفتهم القديمة، وضعف وجود من هاجر منهم في الديوان. وفي ظل هذا الواقع، نشأت علاقات اجتماعية ومنظومة قيم جديدة. وبرزت اتجاهات ومصالح تسير باتجاهات معاكسة ومطردة لخط سير البناء القديم، مؤدية إلى حدوث تغيرات جذرية في الحياة العربية، مما أبرز فكرة الانتماء للأرض بديلا عن الانتماء للعرق. وقد تمت هذه التطورات الجديدة على أنقاض فكرة التنقل والارتحال بحثا عن الكلأ والماء. وفي ظل هذا الواقع الجديد، تم اختلاط العرب بشعوب أمم أخرى من البلدان التي شملها الفتح العربي، بعد أن غادرت أعداد كبيرة منهم مركز الخلافة وانتشرت في مناطق نائية عنه، واتصلت بغيرها من الأجناس. وقد أسهم ذلك في انتشار اللغة العربية بين أقوام جديدة، كما كان سببا في انتشار الإسلام وتعمق أثره في الحياة العامة. وكانت نتيجة ذلك امتزاج العرب مع غيرهم، مما حقق تماثلا في القيم والنظر للحياة، بغض النظر عن الخلفية الحضارية والعرقية للبشر الذين انضووا تحت راية الدين الجديد، مما أدى إلى تضعضع القبيلة وتراجع أثرها. لذلك فإن من البديهي بعد أن تراجع البنيان القبلي، لصالح الانتماء إلى المدينة وبالتالي إلى الأمة، أن لا يبقى منه سوى بعض الاعتبارات الاجتماعية.. وفي ظل هذا الوضع المتشابك، تطورت فكرة الأمة، من أقوام تتحدد هويتهم على أساس انتماء عرقي، إلى شعب ينتمي إلى لغة وحضارة وأرض وثقافة مشتركة. وأصبح متوقعا أن يترجم ذلك في فكر الأدباء والمؤرخين وغيرهم. وهذا ما نلاحظه منذ بداية القرن الثالث الهجري لدى الجاحظ وابن قتيبة وأخيرا عند ابن خلدون، فهم يرون أن اللغة العربية وليس العرق أساس الانتساب للعرب. ومع أنهم يقبلون بدور للبيئة والنسب في بعض الأحيان، إلا أن الرابطة الرئيسية هي اللغة. وقد أشاروا إلى العلاقات المشتركة للجماعة كعامل من مكونات الأمة، وإلى القيم والسجايا العربية كعوامل أخرى، وهي صفات ذات صلة مباشرة بالثقافة. وقد أشار إلى ذلك أبو عمرو عثمان الجاحظ بقوله: «إن العرب لما كانت واحدة في التربية، وفي اللغة والشمائل، والهمة، وفي الأنف والحمية، وفي الأخلاق والسجية، فسبكوا سبكا وكان القالب واحدا، تشابهت الأجزاء وتناسبت الأخلاط .. وصارت هذه الأسباب ولادة أخرى.. وقامت هذه المعاني عندهم مقام الولادة والأرحام الماسة.. وأن الموالي الذين تعربوا هم بالعرب أشبه، وإليهم أقرب، وبهم أمس لأن السنة جعلتهم منهم.. وهم أقرب إلى العرب في كثير من المعاني. هكذا ارتقت العربية بفكرة الأمة من انتماء لعرق إلى انتماء إلى لغة ودين، لعل أصدق تعبير عنه إجابة مولى هشام بن عبد الملك حين سأله الخليفة العباسي أبو جعفر المنصور عن هويته بقوله: «إن كانت العربية لسانا فقد نطقنا بها، وإن كانت دينا فقد دخلنا فيه». لكن سقوط الدولة العباسية، أدى إلى وجود أكثر من سلطة سياسية في دار الإسلام. انقسمت دولة الخلافة إلى إمارات وممالك، وتعضعضت قوتها، لكن اللغة العربية، والالتزام بعقيدة التوحيد، بقيا عاملا توحيديا لمعظم العرب. واستمر ذلك إلى أن وقعت معظم البلدان العربية تحت سلطان الاستبداد العثماني. وغاب العرب في سبات طويل, لكن تململا بدأ يأخذ مكانه منذ النصف الثاني للقرن التاسع عشر، حيث بدأت اليقظة العربية، في التعبير عن نفسها، متجهة نحو احياء التراث العربي، والتفاعل مع الفكر الإنساني. وظلت اللغة العربية، عنوانا لهوية هذه الأمة، تجمع الناطقين بها، على اختلاف أديانهم ومعتقداتهم في بوتقة واحدة. لاحقا تأثر مشروع اليقظة العربية، في رؤيته للهوية، بنتائج الحرب العالمية الأولى، وبشكل خاص اتفاقية سايكس بيكو، ووعد بلفور. فقد أسست سايكس- بيكو في تجزئة بلاد بلاد الشام، وسلخ العراق عن مشروع وحدة المشرق العربي، ووضع سورياوالعراق ولبنان وفلسطين والعراق، تحت الهيمنة الفرنسية والبريطانية، وقد نظر إلى وعد بلفور، كعنصر لجم حاسم لأي تطور تنموي بالبلدان العربية. ومن هنا انطلق دعاة مشروع النهضة، من مفهوم جديد للهوية، باعتبارها الحاضن لجميع الأفراد الذين ينتمون إلى جغرافيا، تمتد من الخليج العربي الى المحيط الأطلسي، يجمعهم أنهم ناطقون بالعربية، وينتمون إلى جغرافيا وتاريخ مشترك. وقد تم النظر، من قبل زعماء اليقظة، بشكل عدائي وصريح إلى ما عداها من الهويات الأخرى، بما في ذلك الهويات الوطنية. فمن وجهة النظر هذه، فإن الدول الوطنية هي نتاج مشروع التجزئة. وعلى أساس هذه النظرة تشكلت حركات سياسية، تقف موقفا، عدائيا من الدولة الوطنية العربية، منفعلة بإفرازات ما حدث في بلاد الشام، ومعممة ذلك على بقية البلدان العربية. نظر المشروع النهضوي إلى أن المجتمعات العربية، هي مجتمعات كسيحة وعاجزة عن الاضطلاع بمشاريع التنمية ونقل المجتمع العربي، ليكون في مصاف الأمم الراقية. وتم النظر إلى وحدة العرب، كمفتاح لمعالجة كل المشاكل. وسكن في يقين الكثير من المفكرين العرب، أن النهوض يتحقق بالاندماج التام، وأن ليس هناك ما يمنع العرب من تحقيق ذلك، طالما يجمعهم التماثل في الثقافات والعادات والمصالح. لكن التطور التاريخي أثبت عدمية هذه النظرة، وحتمية تجاوزها من قبل رواد الفكر العربي، إذا ما أرادوا لهذه الأمة التقدم والنماء. فالبلدان العربية، لم تتشكل في معظمها بإرادات خارجية، كما كان ينظر له، منذ بروز نتائج الحرب العالمية الأولى إلى نهاية الستينيات من القرن المنصرم. فكثير من هذه البلدان هي من صنع التاريخ، ومضى على بعضها، بسياقها الحالي، آلاف السنين. كما هو الحال مع مصر وتونس. يضاف إلى ذلك أن التجارب التاريخية، أكدت أن الوحدات السياسية، تأتي لتلبي الحاجة لواقع موضوعي، وأن المجتمعات الإنسانية، لا تتماثل حتى وإن جمعتها لغات وثقافات مشتركة. إن وجود لغات وثقافات مشتركة، هي عامل مساعد، لقيام وحدات سياسية واقتصادية، ولكنها بمفردها لا تحتم تحقيق ذلك. ثم ان اعتبار الاندماج شرطا لمعالجة التخلف والانطلاق للبناء والتنمية ليس أكيدا، لأن التفاعل يتم بين أجزاء صحيحة، وليست عليلة. إن مثل هذا الطرح، يعفي الدولة الوطنية من مهامها التاريخية، ويقدم المبررات لتقصيرها في أداء مهامها، نظرا لأنها ، بموجب تلك التنظيرات، لن تكون قادرة على تحقيق مهام النهوض إلا في ظل دولة الوحدة. ووفق هذه النظرة النقدية لرؤية المشروع النهضوي للهوية، تم النظر إلى الدولة الوطنية، كهوية جامعة، وليس مجرد هوية فرعية. إن ذلك يفترض فيها أن تنهض كدولة مستقلة بمجتمعاتها، على كافة الأصعدة. وأن تلبي حاجة مواطنيها من صحة وتعليم وسكن وأمن ورخاء، وتأمين لمستلزمات الدفاع عن الوطن، بما يستوجب من بناء جيش قوي وأجهزة أمنية حديثة، وما إلى ذلك من مستلزمات بناء الدول الحديثة. نظر إلى العلاقة بين بلدان الأمة، على أنها تكاملية، حيث تعج البلدان العربية، بطاقات حية، وثروات مختلفة، وقدرات بشرية متباينة، من حيث التعداد والخبرات، بما يعني أن التكامل بين هذه القدرات من شأنه أن يوجد كيانا عربيا قويا، بما يلغي مقولة التماثل. إن هذا التطور الجديد لمفهوم الهوية، يعني أن مقولة قوة الأمة في وحدتها، لا تعني بالضرورة، تحقيق وحدة اندماجية بين الأقطار العربية. فما تحتاجه الأمة، هو تلبية حاجات الناس ومتطلباتهم واستحقاقاتهم في الحرية والكرامة. وفي هذا السياق، جرى التنظير لنظام عربي، لا مركزي، يتجه نحو أنموذج سياسي عملي وواقعي، يستلهم من نماذج الاتحادات الكونفدرالية، التي شهدها العصر الحديث، حيث لا تناقض بين الهوية الوطنية، وهوية الأمة، بل تكامل وتفاعل بينهما، فيغدوان مصدر قوة وحيوية للأمة بأسرها. ويمكن أن يتحقق هذا النوع من الكونفدراليات بشكل تدرجي، يشمل القضايا الأساسية، المرتبطة بالحاجات اليومية للبشر. فيكون البدء على سبيل المثال، بالوحدة الاقتصادية، وبتوحيد الأنظمة الجمركية، والكهرباء، ومد السكك الحديدية، واستكمال ما بقي من خطوط المواصلات البرية والجوية. ويتم ذلك أيضا، من خلال إحياء معاهدات واتفاقيات، وقعها القادة العرب، في شؤون الأمن والدفاع، وبقيت لعدة عقود دونما تفعيل، كمعاهدة الدفاع العربي المشترك والأمن القومي العربي الجماعي. ولعل متابعة تجربة الاتحاد الأوروبي، تشكل خيارا ملهما في هذا السياق. فقد حلق هذا الاتحاد بجناحين، اقتصادي وعسكري. وكانت البداية هي استفادة بلدان أوروبا الغربية، من مشروع مارشال، والتعاون المشترك بين فرنسا وألمانيا في مجالي الحديد والصلب، وانخراط معظم دول أوروبا الغربية، في حلف عسكري مشترك، هو حلف الأطلسي. وقد هيأ هذان الجناحان لقيام السوق الأوروبية المشتركة، ثم قيام الوحدة الأوروبية. هذا المنظور هو تطور نوعي جديد لمفهوم الهوية وهو تطور نوعي، يأتي استجابة للتطور التاريخي، وتطور وعي شعوب المنطقة، بحقائق العصر، التي تتجه بثبات نحو اقتصادات الأبعاد الكبيرة، والكتل التاريخية. وهو وعي يضعنا على السكة الصحيحة، وفي المكان اللائق من خارطة التطور البشري، بما يحقق صبوات الجميع في مجتمع عربي قوي ومتطور، يكون الإنسان العربي عماده وركنه الأساس. وهو الذي يجعل من الهوية الحصن الحصين في مواجهة المخاطر، وإلحاق الهزيمة بعناصر التطرف والتخريب.