من هو المثقف في مجتمعنا؟.. ستكون مسألة جدلية لا معطيات لها، ولا دلالات حقيقية، ولا معايير واضحة.. لدينا قد يؤلف أحدهم رواية، أو روايتين فيقدمه بعض الإعلام على أنه «المثقف فلتة زمانه»، أو يكتب في الثقافة والأدب فيصنّفه أهل الهوى كمثقف، أو يحضر في النوادي الأدبية والثقافية فيضعه «ربعه» في النعت بمثقف. ليس مهما الآن أن نعرّف الثقافة وحقيقتها لأنها ببساطة مساحة مستباحة فلدينا قد يصف أحدهم نفسه بالمثقف دون مؤهل معياري.. وليس هاما الآن أن نضع مقاييس لذلك حيث إن الحَمِية للثقافة أصبحت وأمست مثقوبة كن مثقفا مثلما تحب، صِف نفسك، لقّب ذاتك بما تشاء، وابحث عن شفاعات وعلاقات تقدمك مثلما تريد، أو مثلما يتبناك إعلامك وتيارك.. فحقيقة البعض لا يلتفت إلى الأفعال، والسلوك، والفهم، والرشد العقلي بل يهتمون بمن تخرجه الأضواء وتسلط عليه. حينما يوضع أحدهم في قالب «المثقف» ويقدم دوما هكذا تجده يصدق ذلك فيحاول ألا يخرج للملأ إلا كما وضعه مجتمعه القريب.. فيتقمص دور الفيلسوف أحيانا، أو يرتدي عباءة الأكاديمي أحيانا أخرى، أو يلبس ثياب الكاتب الصحفي، أو يضع نفسه في سقف المفكر المختلف. كثيرٌ من المثقفين سواء المصنوعون، أو المطبوعون.. المصنفون، أو غير المصنفين.. أجاز لنفسه، أو توقع أن المجتمع أجاز له ما لا يجوز لغيره.. فتجده غالبا متحولا لكل مجال في أطروحاته فهو السياسي، وهو الاجتماعي، وهو الإعلامي، وهو المفكر، وهو الخبير، فيسمح لذاته بأن يطرح من فكره في كل مجال سابق لأنه تحوّل من مثقف إلى محلل ومعلق في كل شأن.. فما أن يحدث حدث سياسي إلا وتجد له تحليلات.. يحدث حدث اجتماعي فتقرأ له أطروحات، ولا يترك مجالا إلا ويتطفل عليه بينما هو يمنع أي شخص من مجال آخر أن يتدخل في مساحات الثقافة والأدب ويقول اتركوها لنا. ولم يمنعه كونه يصنف نفسه مثقفا في أن يخوض في مسائل وأطروحات دينية يغطيه الجهل بها، ولم يجد إلا أن عقله يسمح له بأن يفكر ويعيد النظر حتى في الثوابت.. وقبل ذلك يشكك فيها بل سمح لثقافته والتزم بأن يقحمها في الدين.. وأصرّ مع أنه يمنعه من ثقافته، حيث صار هذا المثقف يتناول كل شيء بل ويحاكم ويقضي بعيدا عن الحجج العلمية، والشواهد العقلية ويترك المنهجية في جدالاته، ولا يقبل إلا بمرجعية ثقافته.. لأنه يدس أنفه وهو متشبع ومتشرب قناعاته البالية التي تصنع سياجا من قبول الحق والرضا بالرأي الآخر.. بالفعل لدينا أزمة عملاقة هي أزمة المثقف المتدين فحين تريد أن تعرف من هو المثقف وما سماته، وتسأل المجتمع حولك بسرعة فسيكون كثير من الإجابات إنه من كان تنويريا، أو حداثيا، أو له أسهم من الليبرالية، أو نصيب من العلمانية، أو كليهما، ومن أراد تعريف المثقف عبر مفهوم الثقافة الناضجة فسيتعب كثيرا.. ولن يجد. مع يقيني أن هناك متطفلين من فئات أخرى، ومع حاجة المجتمع مرات لرأي معقول من مثقف عاقل في بعض الأمور لكن بحدود فهمه ووعيه الثقافي لا بنزعة القفز على مجالات أخرى، إلا أن كثيرا من المثقفين بيننا لم يلتزم بأدبيات الثقافة التي يفترض أن تبعده عن مجالات لا يفقه فيها.. ولم تردعه ثقافته بألا يسهم بأطروحات الجدل واللغط الفارغة.. وحين تنظر حولك فستجد كثيرا منهم خاملا ليس له نشاط ثقافي لمدة طويلة مع أنه نشيط بالمشاركة في أطروحات اجتماعية ودينية وسياسة. ويبقى القول: لو تابعنا العالم الآخر لوجدنا أن لكل مجال خصائص ورجالا فلن نشاهد المثقف يتطفل بآراء وتعليقات على أحداث سياسية، أو يتفيقه ويتنطع في الموضوعات الدينية والاجتماعية.. لذا على كل مثقف «ملقوف» أن يراجع ثقافته، وأبعاد وظيفته الثقافية.. ويتصالح مع كل مكون في وطننا، ويتآزر مع هوية الوطن، ولا يقصي نفسه بعيدا عن المشهد الوطني باتباعات انتقائية تلصقه بتيار ما، أو تعزله عن قيمته في المجتمع.. ويبقى السؤال هل الثقافة «لقافة» كما نردد شعبيا؟.