كان حديثًا مقلقًا. ففي بث مباشر على شاشة التلفزيون كان فيصل إسلام، المحرر السياسي لشبكة «سكاي نيوز» البريطانية، يروي حديثًا دار بينه وبين عضو من حزب المحافظين في البرلمان مؤيد لخروج بريطانيا من الاتحاد الأوروبي. (قلت له: أين الخطة؟ هل يمكننا الاطلاع على خطة خروج بريطانيا الآن؟، فأجاب عضو البرلمان بقوله: لا توجد خطة. حملة الرحيل ليست لديها خطة لما بعد خروج بريطانيا... كان ينبغي أن يكون رئيس الوزراء لديه خطة). تنتقل الكاميرا إلى مشهد آخر تظهر فيه المذيعة آنا بوتنغ وقد ارتسمت ملامح الرعب على وجهها. يلوذ كلاهما بالصمت لبضع ثوان، فيما بدأت الحقيقة تتضح. ثم تجيب وهي تنكس بصرها نحو الطاولة، قائلة: لا أدري ماذا أقول ردًّا على ذلك. ثم تقطع البث لإذاعة فاصل إعلاني. مضت ستون ساعة منذ أن ظهر ديفيد كاميرون وعيناه متورمتان خارج 10 داوننغ ستريت وأعلن استقالته. تدهور سعر صرف الجنيه الإسترليني. تم إيقاف القرارات الاستثمارية، وبدأت الشركات تتحدث بالفعل عن نقل عملياتها إلى الخارج. واستقال العضو البريطاني في المفوضية الأوروبية. وتلوح في الأفق إجراءات سياسية حساسة (نشر تقرير تشيلكوت، قرارات بشأن مدرج جديد في مطار لندن، وتجديد برنامج الردع النووي البريطاني). ويعكف الزعماء الأوروبيون على رحلات مكوكية بشأن اجتماع القارة ومناقشة ما يجب فعله في المرحلة التالية. ويبحث الأكثر تعاطفًا مع بريطانيا عن بوادر من لندن تنم عن إلى أي مدى يمكنهم التأثير على المناقشات تأثيرًا مفيدًا. وأما داخل بريطانيا فتوجد أدلة متزايدة تشير إلى حدوث طفرة في الهجمات المدفوعة بدوافع عرقية وبكراهية الأجانب ضد المهاجرين. واسكتلندا في طريقها إلى استفتاء آخر على الاستقلال. وتسوية السلام مع شمال أيرلندا ربما تكون معلقة بشعرة. لكن على قمة السياسة البريطانية يوجد فراغ يزداد اتساعًا. أجراس الهواتف تدق لكن لا أحد يرد، وذلك بحسب ما أفادت مجلة (الإيكونوميست) البريطانية في تقرير لها بعنوان (فوضى في المملكة المتحدة: سفينة بريطانيا تبحر في خضم عاصفة ولا أحد يسيّر دفتها). لم يتفوه كاميرون بكلمة منذ صباح الجمعة، ولاذ وزير الخزانة جورج أوسبورن بالصمت. آثر أخلص حلفاء رئيس الوزراء في وستمنستر وفي وسائل الإعلام الصمت إلى حد كبير. باستثناء بعض البيانات الممتقعة المغمغمة التي صدرت عن مقر حملة التصويت للرحيل يوم الجمعة، نأى بوريس جونسون ومايكل غوف أيضًا بنفسيهما عن الأضواء، ومن المقرر أن يلتقي جونسون أصدقاءه وحلفاءه (الموافق 26 يونيو) في بيته بالقرب من أكسفورد في لقاء يُعتقد أنه محادثات بشأن حملته الوشيكة لتولي زعامة الحزب. ولا يبدو أن لدى أي منهما أدنى فكرة عما ينبغي فعله في المرحلة التالية. وأعربت زوجة غوف على حسابها على فيسبوك عن أملها في أن ينبري «أصحاب الحنكة» ويعرضون «المساهمة بنصائحهم وخبرتهم». وغرّدت ريتشل شقيقة جونسون على حسابها على تويتر بقولها: «يداوم الجميع على قول: «مكاننا هو حيث نحن موجودون الآن» لكن لا يبدو أن أحدًا لديه أدنى فكرة عن هذا المكان بالضبط». المعتاد أن المعارضة قد تستغل هذا الفراغ، فتدعو الحكومة إلى العمل، وتعرض عليها مقترحاتها، وتقْدم على طرح إطار معين. لكن حزب العمال انكفأ على ذاته، وقد جرى مساء هذا اليوم استعراض لاستقالة وزراء الظل في خطوة بدا أنها محاولة انقلاب منسقة ضد زعيم الحزب عديم الفائدة جيريمي كوربين. ومن المتوقع أن يدعو نائب زعيم الحزب توم واطسون في اجتماع سيُعقد غدًا السيد كوربين إلى الاستقالة. وأما عن الحاجة إلى الاستقرار والقيادة في أعقاب تصويت يوم الخميس فيلزم الحزب جانب الصمت. لا يبدو أن أحدًا قادر على أن ينبري ويقدّم تطمينات. فأنصار الرحيل -الذين اختلفوا بشأن الهيئة التي ينبغي أن يكون عليها خروج بريطانيا- لا يرون أنهم مسؤولون عن رسم مسار معين، وفي تقديرهم أن هذه المسؤولية تقع على عاتق رقم 10 داوننغ ستريت، وفي الأحوال التي ظهروا فيها علانية، كان ذلك في الغالب للانسلاخ من ذات العهود التي فازوا على أساسها بالاستفتاء. لكن على ما يبدو أن رقم 10 لم يخطط إلا قليلًا لهذه النتيجة المحتملة، ويبدو أنه شُل بفعل الفوضى التي بدأت فصولها تتكشف، ويعزف عن صياغة أجوبة عن أسئلة أنصار خروج بريطانيا غير المجاب عنها. فكما قال كاميرون لمعاونيه يوم 24 يونيو عند تفسير قرار الاستقالة، حسبما ذكرت التقارير: «لماذا أفعل كل الأشياء الصعبة؟». هذه السحابة يمكن أن تستمر لفترة ما. فالسباق على زعامة حزب المحافظين سيستمر حتى أوائل أكتوبر على الأقل، وربما أطول من ذلك. وقد تمضي فترة مماثلة ريثما يصير على رأس حزب العمال زعيم جديد، وحتى عندئذ فإنه قد يكون زعيم تصريف أعمال. يمكن أن يدعو رئيس الوزراء الجديد إلى انتخابات عامة. وقد يمضي أكثر من نصف سنة ريثما تحصل بريطانيا على زعيم قادر على التصدي للأزمات الكثيرة التي تكتنفها الآن. ولا يملك البلد مثل هذا الوقت. فعلى الرغم من الحجج التي يسوقها أنصار بريطانيا في القارة الأوروبية، ومن ضمنهم أنغيلا ميركل، للمطالبة بالتحلي بالصبر، هناك إصرار متزايد على احتكام بريطانيا فورًا إلى المادة 50 من معاهدة لشبونة، لتستهل بذلك مفاوضات بشأن الخروج لا تدوم أكثر من سنتين. وسرعان ما قد نجد توافقًا في الآراء. ويمكن الزج ببريطانيا إلى محادثات تحت زعيم مرتعش اليدين، على حد وصف «الإيكونوميست»، ليست لديه فكرة واضحة عن الهيئة التي ينبغي أن يكون عليها خروج بريطانيا ولا يتمتع بولاية للتفاوض. وكل هذا على خلفية اضطرابات اقتصادية متزايدة الحدة وانقسامات قبيحة آخذة في الاتساع في شوارع بريطانيا. إن سفينة الأمة البريطانية تبحر في قلب عاصفة من دون ربان يسيّر دفتها، على حد وصف المجلة. كراهية عرقية قديمة يمكنك معرفة كل ما تحتاج إلى معرفته عن استفتاء الاتحاد الأوروبي في المملكة المتحدة بالتحدث إلى شخصين اثنين لا غير في لندن، وهما سائق التاكسي ورائد الأعمال من جيل الألفية. هذان الاثنان لم يلتقيا قط (فسائق التاكسي لا يتسكع في الأماكن العصرية، ورائد الأعمال من جيل الألفية يؤثر استخدام أوبر على تاكسيات لندن التقليدية). يقول كارل شارو، المعماري والكاتب الساخر المقيم في لندن في تعليق له نشرته مجلة «ذي أتلانتيك الأمريكية»، «في حديثي مع كل من سائق تاكسي ورجل أعمال بارز لمدة عشر دقائق، صرت على دراية كافية تسمح لي بالكتابة عن هذا الجدال الذي أجج العواطف في هذه الجزيرة الصغيرة. وعندي من اليقين ما يجعلني أعلن أن الكراهيات الدفينة التي تحرك هذا الجدال أرسخ وأعمق من أن يتسنى معها بقاء المملكة المتحدة (اتحاد عشوائي مؤلف من قبائل عاشت في توتر على مدى قرون من الزمان) على اتحادها». كان سائق التاكسي جون يشعر بخيبة الأمل في السياسة الحديثة. ومع أنه لم يستخدم عبارة خيبة الأمل، فإن كارل شارو يراها مناسبة تمامًا لجمهوري الكوزموبوليتاني رفيع الثقافة. كان جون غاضبًا من زيادة عدد الفرق المشاركة في بطولة أمم أوروبا لكرة القدم من 16 إلى 25 فريقًا، وذلك في إدانة واضحة منه لمكائد البيروقراطيين الأوروبيين وانفصالهم عن عامة الناس. كان جون يتحدث بنبرة غاضبة معبرًا عن استيائه من انعدام الشفافية في السياسة الأوروبية وخصوصًا في سياق ما بعد معاهدة روما. وعلى الرغم من أن كارل يقول إن شارو شخصيًّا من كبار المعجبين بالاتحاد الأوروبي فإنه يقول إنه يتفهم بصدق أسباب استياء الطبقة العاملة منه. لكن أليس هذا مؤشرا ينم عن عجز السّاسة عن شرح مزايا الاتحاد الأوروبي للبسطاء وما يجعله مفيدًا لهم؟ والحقيقة أن محاولة فهم المواقف تجاه استفتاء الاتحاد الأوروبي من منظور الطبقة الاجتماعية محاولة مضللة. وكما يقول معظم المعلقين، فلا علاقة للطبقة الاجتماعية بهذا، والحقيقة أن الطبقة الاجتماعية لم تلعب تاريخيًّا قط دورًا مهمًّا في السياسة البريطانية أو المجتمع البريطاني. بل ومعظم الناس لا يعرفون الطبقة التي ينتمون إليها، وكثير منهم يمكن أن يكونوا من أبناء الطبقتين العليا والدنيا في آن واحد، مثل اللورد آلان شوغر ابن الطبقة العاملة المليونير الذائع الصيت عالميًّا. غير أن هذه الميوعة في الهوية الطبقية تتباين تباينًا شديدًا مع التنافس العرقي الشرس داخل هذه المملكة القديمة، بحسب ما أوضح كارل شارو. فالغزو النورماندي لإنجلترا في القرن الحادي عشر ترك آثار جراح عميقة وتمخض عن انقسامات بين الغزاة النورمانديين والسكان الأنجلوساكسونيين المحليين، وما زالت هذه الانقسامات مستمرة إلى يومنا هذا وفي استمرار أساطير مثل روبين هود وإيفانهو تصف مقاومة الأنجلوساكسونيين الأصليين للنورمانديين شهادة على هذه الواقع. وعندما ينظر الأنجلوساكسونيون في بريطانيا اليوم إلى الاتحاد الأوروبي، لا يرون اتحادًا سياسيًّا حديثًا بل يرون وجه الاحتلال النورماندي الذي لم يفارق مخيلاتهم. ويتجلى استمرار هذه المنافسة القديمة بين النورمانديين والأنجلوساكسونيين في بريطانيا العصر الحديث في أشرس صوره في عالم كرة القدم، وهي رياضة محلية تمارس على ملاعب عشبية. فالبطولة المحلية تحظى بمتابعة الملايين من المشجعين المتحمسين الذين يدعمون فرقهم بتفان وإخلاص. تهيمن على هذه اللعبة فرق أنجلوساكسونية مثل مانشستر يونايتد وليفربول ونيوكاسل، وكذلك نواد نورماندية مثل تشيلسي وتوتنهام هوتسبير والأهم من هذه كلها نادي أرسنال أحرز نادي أرسنال الكثير من الألقاب على مر السنين، لكن لم يحرز ألقابًا مهمة بحق على مدى العقد الماضي أو نحو ذلك. غير أن النادي ما زال محل بغض عام من جانب المشجعين الأنجلوساكسونيين لأسباب ليس أقلها مديره الفني الفرنسي (وكلمة فرنسي هي البديل الحديث لكلمة نورماندي) القديم أرسين فينغر والعدد الكبير من اللاعبين الفرنسين الذين لعبوا في صفوفه على مر السنين. وهو مكروه أيضًا بسبب أسلوبه الرشيق المستفز في لعب كرة القدم، والذي يشي بشكل العدمية النورماندي النمطي. ويتباين هذا الأسلوب مع النهج الأنجلوساكسوني القوي مفتول العضلات في ممارسة هذه اللعبة والذي ينأى بنفسه عن كل الاعتبارات الجمالية. التقسيم هو الحل الوحيد لهذه الكراهيات المستعصية ولا نستغرب أن فنغر مؤيد صريح لحملة «البقاء» واستمرار عضوية بريطانيا في الاتحاد الأوروبي. والواقع أن معظم قيادات معسكر البقاء هم من أصل نورماندي، وأما غالبية قيادات معسكر الرحيل فمن أصل أنجلوساكسوني. الاستثناء البارز لهذه القاعدة هو نايجل فاراج، وهو سياسي من أصل نورماندي يجادل بضرورة أن ينحي النورمانديون والأنجلوساكسونيون خلافاتهم جانبًا ويركزوا بدلًا من ذلك على معاداة الأجانب. تعرض فاراج للنبذ من جانب المجتمع النورماندي بسبب خيانته العلنية لأصوله، لكنه تمكّن من بناء قاعدة دعم بين الأنجلوساكسونيين وإن كانت غير كافية لإيصاله إلى عضوية البرلمان. تحبب فاراج إلى الأنجلوساكسونيين بشربه الجعة علانية، وهي عادة يستهجنها النورمانديون الذين يفضلون الخمر والقهوة. هذا الخط الفاصل الجوهري داخل الثقافة البريطانية أغفله المعلقون في نقاش الاستفتاء، لكنه يمثل انقسامًا رمزيًّا مهمًّا. أراد كارل شارو أن يعرف المزيد، لذا قرر الحديث مع ماتيو، رائد الأعمال ابن جيل الألفية. يدير ماتيو ما يعرف باسم «عربة القهوة العصرية»، لكنه أكثر بكثير من مجرد بائع قهوة. فهو شديد الحماس لفلسفته الشخصية، التي تتمحور حول تقاضي أجر مرتفع من العملاء نظير منتجات مصنوعة يدويًّا بحرفية كبيرة. وهو جزء من سلالة جديدة من الناشطين/ رواد الأعمال في المملكة المتحدة الذين يعيدون تعريف المشهد الاستهلاكي فيما بعد الإنتاج الشامل. وماتيو هذا من أصل نورماندي كما تستنتج من اسمه ذي الملامح اللاتينية. يؤمن ماتيو بضرورة بقاء المملكة المتحدة ضمن الاتحاد الأوروبي، زاعمًا أنه يشعر بأنه أوروبي أكثر منه إنجليزي. وعدّد لي (الكلام ل كارل شارو) الكثير من الإنجازات العظيمة التي حققها الاتحاد الأوروبي، كإعطاء النساء والأقليات حق التصويت، واستحداث عطلات السبت الأسبوعية (التي هي أكثر أيامه رواجًا) وإلغاء العبودية. والشيء الذي استهواه بخاصة السفر عبر أوروبا، وتحدثه مع أصحاب الفكر المماثل عن عشقهم المشترك للمنتجات المصنوعة يدويًّا ذات السعر المبالغ فيه، وأعرب عن خوفه من فقدان حريته لو رحلت بريطانيا عن الاتحاد الأوروبي. يقول كارل شارو: «شعرت لدى رحيلي بالحزن لأن عالميْ ماتيو وجون متباعدان كل البعد. من المأسوي أن أحداثًا وقعت منذ ألف سنة ما زالت تفرّق بين الشعب البريطاني وتؤثّر على علاقة البلد بأوروبا، التي خاض معها تاريخيًّا الكثير من الحروب الخيّرة». في يوم الخميس وفيما كان الشعب البريطاني يصوّت للبقاء في الاتحاد الأوروبي أو الرحيل عنه، كان هذا الانقسام العرقي القديم بين النورمانديين والأنجلوساكسونيين هو المحرك الأكبر وراء التصويت. الواضح في ظل هذه الخلافات المستعصية -التي تستطيع الولاياتالمتحدة التوسط فيها لكن لا تستطيع حلها- أن الحل الوحيد هو تقسيم المملكة المتحدة، بحيث يبقى أحد شطريها في الاتحاد الأوروبي ويرحل الآخر عنه. سيمر الحد الفاصل بين دولتيْ الرحيل والبقاء عبر لندن، التي ستتحول إلى منطقة منزوعة السلاح تديرها الأممالمتحدة، مع تمركز قوات حفظ السلام على طول هذا الحد. ربما يتمخض هذا الحد عن وجود منطقة هنا أو منطقة هناك في المعسكر الذي لا تنتمي إليه، لكن هذه سمة الحدود الكولونيالية. الدروس القاسية التي يجب أن تتعلمها أوروبا من جهته قال جيروم فينوغليو، رئيس تحرير صحيفة «لوموند»، كبرى الصحف اليومية الفرنسية، إن رحيل المملكة المتحدة عن الاتحاد الأوروبي يجب أن يكون صيحة إنذار للبلدان السبعة والعشرين المتبقية. لكن الحل ربما يكمن في منح مزيد من الصلاحيات لأوروبا لا الخصم من صلاحياتها. واعتبر رئيس تحرير لوموند الفرنسية تصويت بريطانيا لصالح الرحيل عن الاتحاد الأوروبي رفضًا كبيرًا لبروكسل. هذه هي الحقيقة السافرة الموجعة، حقيقة الاستفتاء الذي نظمه رئيس الوزراء البريطاني ديفيد كاميرون. فهو يعني أن ثاني أكبر اقتصاد في الاتحاد الأوروبي بعد ألمانيا سيرحل عن المشروع الأوروبي. ويعني أن واحدًا من بلدان الاتحاد الأوروبي القليلة التي تملك آلية دفاع يُحسب لها حساب ودبلوماسية ذات وزن ثقيل في سبيله إلى التخلي عن أوروبا. هذا التطور المحزن هزيمة للاتحاد الأوروبي، على حد قول جيروم فينوغليو، مهما كانت الطريقة التي تنظر بها إليه، وسيؤدي رحيل المملكة المتحدة إلى ضعف الاتحاد. فالعالم الآن يرى في هذه الكتلة كيانًا بدأ نجمه في الأفول. قد يتراءى لك أن هذا تقييم جائر بالنظر إلى سجل أوروبا الحافل، ويمكنك أن تقول إن زعيم حزب المحافظين كاميرون لم يكن قط بالمدافع القوي عن الاتحاد الأوروبي بما أنه في جوهره من المشككين في جدوى الاتحاد الأوروبي ونادرًا ما أيّده بكلمة. قد ترى أن البريطانيين أقدموا على مخاطرة هائلة. لكن هذا شأنهم الآن. لقد اتخذوا قرارًا بأنفسهم وبطريقة ديمقراطية، واضعين بهذا نهاية لثلاث وأربعين سنة من المشاركة في المشروع الأوروبي، وهي فترة لم تكن سيئة جدًّا بالنسبة لهم. واستدرك جيروم فينوغليو بقوله: لكن اهتمامنا الأول ينصرف إلى السبعة والعشرين بلدًا التي تتألف منها الآن أوروبا. هذه ضربة تاريخية للاتحاد الأوروبي، إذ لا يمكن ببساطة لهذه البلدان السبعة والعشرين أن تتجاهل عواقب خروج بريطانيا. وأسوأ ما يمكنها فعله أن تمضي في شؤونها كالمعتاد؛ فهذا سلوك سيتمخض عن تشكك في جدوى هذه الكتلة أكثر مما يتمخض عن حماس تجاهها. يقول رئيس تحرير لوموند: أسوأ ما يمكننا فعله اليوم أن نظن أن هذا مجرد قرار كارثي اتخذه البريطانيون للانسحاب والانكفاء على أنفسهم في جزيرتهم وأن هذا القرار لن يحول دون استمرار المشروع الأوروبي «كما كان من قبل». وأخطر موقف عديم المسؤولية يمكن للمرء اتخاذه أن ينحي باللائمة برمتها على الغوغائية وكراهية الأجانب والأكاذيب التي صاحبت حملة الرحيل. فلو استسلمنا لهذا التفسير السهل، سيواصل الاتحاد الأوروبي هدم نفسه باستفتاءات ورحيل مماثلين يحدثان هنا وهناك. وعلى العكس من ذلك، فلو أننا نريد ألا يؤذن يوم 23 يونيو ببداية تفكك الاتحاد الأوروبي، فالواجب أن تدرك المؤسسة أن الاستفتاء البريطاني يجبرها على التأمل بعمق في الحال التي يجب أن تصير إليها. ويتابع جيروم فينوغليو بقوله: لن تُحل قضية هذا الاتجاه الجديد الذي يجب على الاتحاد الأوروبي المضيّ فيه في بضعة سطور، فهيا بنا نحاول بحرص رسم مسار محتمل. الأوروبيون لا يطالبون بتحسين لا ينتهي أبدًا للسوق الموحدة، لكنهم أيضًا لا يميلون إلى تبني شكل فيدرالي. فهم يريدون مزيدًا من الأمن في بيئة غير مستقرة، يريدون فرض رقابة على الحدود الخارجية للاتحاد في زمن يشهد تدفقًا كبيرا للمهاجرين واللاجئين. في يومنا هذا وزماننا هذا، زمان «ديمقراطية الآنية»، التي رسخت جذورها الثورة الرقمية، يريد الأوروبيون مزيدًا من الديمقراطية الأوروبية. وهذا يعني تعزيز التعاون في ميداني الدفاع والهجرة وكذلك تقوية العلاقة بين البرلمانات الوطنية فيما يخص قضايا الاتحاد الأوروبي. فهذا النوع من زخم «منح مزيد من الصلاحيات لأوروبا» ينبغي أن يحقق وفاقًا بين المواطنين العاديين داخل الاتحاد راهن ديفيد كاميرون رهانًا ضخمًا وخسر، فأعلن بعده أنه سيرحل عن منصبه في غضون بضعة أشهر. والآن فمن المتوقع أن يكون تنظيم هذا الطلاق عملية طويلة ومعقدة. وتسمح المعاهدات بمهلة تمتد من سنتين إلى أربع سنوات للتفاوض بشأن انسحاب المملكة المتحدة من الاتحاد الأوروبي. البرلمان في وستمنستر معارض لخروج بريطانيا. وقد بدأ بالفعل قيادات من حملة الرحيل ينكصون على أعقابهم، ويقولون إنه لا داعي للعجلة. وهم يريدون إطالة هذه العملية حتى عام 2020؛ لأن قلوبهم وجلة في مواجهة المجهول. ويرون بأعينهم الإعصار يضرب الجنيه الإسترليني ويضرب عاصمتهم. ويعرفون أن هناك ركودًا اقتصاديًّا بريطانيًّا ينتظرهم على الطريق. ويعرفون حق المعرفة أن ما حدث كان اقتراعًا إنجليزيًّا، وأن كلًّا من اسكتلندا والسواد الأعظم من أيرلندا الشمالية كان يرفض خروج بريطانيا. والآن صارت وحدة المملكة، من جديد، هي المعرضة للتهديد. واختتم جيروم فينوغليو افتتاحية «لوموند» بقوله: «في هذا السياق المضطرب، يجب أن نستمسك نحن أبناء القارة باللعب النظيف. لكن الإنجليز اتخذوا قرارهم. الرحيل يعني الرحيل». نهاية «القوة الناعمة» الأوروبية إلى ذلك، قالت صحيفة «دي فيلت» الألمانية في تقرير لها، تعليقًا على الخروج البريطاني من الاتحاد الأوروبي، «على مدى عقود من الزمن وبريطانيا تشهد انحسارًا في قوتها الاقتصادية والعسكرية، لكن «قوتها الناعمة» صمدت بقوة. غير أنه حتى هذه القوة الناعمة باتت الآن عرضة للخطر، ربما كان الأحرى بنا أن نرضى عن الوضع الراهن هنا في العالم القديم. لقد تفوقت علينا الولاياتالمتحدة والصين بالفعل وبفاصل كبير من منظور اقتصادي، وصارتا أيضًا أفضل منا بكثير على الصعيد العسكري». كل هذا كان يمكن تقبله بصدر رحب ونحن نرى العالم القديم يملك معينًا وافرًا من شيء لا تملكه منطقة أخرى على وجه الأرض، ونعني سمعته الطيبة. حتى مع أن الأرقام الملموسة، كإجمالي الناتج المحلي، ربما تميل في الاتجاه المعاكس، تظل أوروبا قوة يحسب لها حساب من حيث «القوة الناعمة» فهي معروفة بنظمها التعليمية السليمة وهياكلها الديمقراطية بالغة النضج. بل وفاز الاتحاد الأوروبي ككل بجائزة نوبل للسلام منذ أربع سنوات. وتمثّل أعرافه الثقافية والمجتمعية سمته المميزة التي تحظى بتقدير كبير. فما زال العالم كله يذكر كأس العالم الذي أقيم في ألمانيا منذ عشر سنوات وعايش خلاله الزوار كرم الضيافة الألماني ومودة الشعب الألماني. لكن ماذا الآن؟ أوروبا الآن في الطريق إلى فقدانها سمعتها الطيبة. فمشجعو كرة القدم المجتمعون في فرنسا هذه الأيام يُظهرون أقبح وجوههم في بطولة أمم أوروبا لكرة القدم 2016. وتبدو سلطات إنفاذ القانون مثقلة بالأعباء، والعالم ينظر في رعب في ظل بث المشاهد القبيحة في لِيل ومارسيليا. لكن الأمر بالطبع يتجاوز مجرد حدث رياضي واحد. فالقارة بوجه عام تبدو منقسمة على نحو لم تشهده من قبل في وقت يبدو فيه أنه لا سبيل إلى إيقاف المد الشعبوي على كل من اليسار واليمين. وقد حذّر المؤرخ تيموثي غارتون آش في تصريح له مؤخرًا لصحيفة «فاينانشال تايمز» البريطانية من عودة أيام العالم القديم المظلمة، حذّر من «انتكاسة في البربرية الأوروبية». يأتينا البرهان على تغير الأجواء في استطلاع للرأي أجراه مركز بيو للأبحاث هذا الشهر وكشفت نتيجته عن نظر ثلثي الشعب الفرنسي نظرة سلبية إلى الاتحاد الأوروبي. بل ويفوق الفرنسيون، وفقًا للمركز، البريطانيين في تشاؤمهم حيال الاتحاد الأوروبي، حتى على الرغم من أن المملكة المتحدة من المقرر أن تحسم هذا الأسبوع مسألة بقائها كعضو في الاتحاد الأوروبي من عدمه. لقد بدأ العالم القديم يفقد «قوته الناعمة» ورونقه الإيجابي وجاذبيته في ظل تحول تأييد ما يسمى «خروج بريطانيا» إلى رمز للخوف والشعبوية المتفشية في عموم القارة. فرصة واحدة أخيرة وجدت نسخة هذا العام من «مؤشر القوة الناعمة» الذي تصدره مؤسسة بورتلاند للبحوث أيضًا بوادر على تراجع أوروبا، إذ حلت الولاياتالمتحدة محل بريطانيا في صدارة المؤشر، وهبطت ألمانيا من المركز الثاني إلى الثالث، وركلت كندافرنسا فهوت إلى المركز الخامس. طُوّر مفهوم «القوة الناعمة» في أوائل التسعينيات على يد المؤرخ جوزيف ناي الذي بيّن كيف تستطيع الأمم ممارسة نفوذها فيما وراء حدودها دون استخدام الدبابات. ويمكن تكديس القوة الناعمة من خلال السمعة الإيجابية وارتفاع مستويات المعيشة والجاذبية الثقافية، إذ يمكن لبلد ما في مواجهة التنافس العالمي الشرس اجتذاب الموهوبين في سوق العمل الدولية لو بدا هذا البلد ودودًا ومستقرًّا ومحل ثقة. كان من الأهمية الكبيرة هنا في ألمانيا، وفي ظل العبء التاريخي الذي يثقل كاهل البلد، أن نتمكن من الاستفادة من هذه العوامل. يقول جوناثان ماكلوري، مؤلف دراسة بورتلاند، إنه «بالإضافة إلى دور ألمانيا القيادي في السياسة الخارجية، فإنها تنال الإعجاب في المقام الأول لمنتجاتها المتقدمة وهندستها الرفيعة ونظامها الاقتصادي». علاوة على ذلك فإن تحوّل برلين من عاصمة مقسمة إلى مركز عالمي للإبداع شيء يلفت الأنظار بشدة. ومع ذلك تراجعت ألمانيا هذه السنة من المركز الثاني إلى المركز الثالث في تصنيفات بورتلاند. ينوه ماكلوري بقوله: «وضعت الحكومة الاتحادية أزمة اللاجئين تحت السيطرة. وتُلحق الزيادة الناشئة في الدعم السياسي للجماعات اليمينية ضررًا بقوة ألمانيا الناعمة». البلد صاحب الصدارة لهذا العام هو الولاياتالمتحدة، التي قفزت مركزين في تصنيف القوة الناعمة بدورها القيادي في الابتكار التكنولوجي والتطوير الرقمي والسلع الثقافية العالمية وجامعاتها ذات الشهرة العالمية فلا يوجد بلد آخر يستقطب مثلما تستقطب طلابًا أجانب إلى أرضها، وفوق ذلك أن معظم المنصات الرقمية وعماد الحركة الطليعية الرقمية أمريكي المنشأ. والواقع أن أكبر عشر شركات مسجلة في البورصة شركات أمريكية، ومن بينها عمالقة التكنولوجيا الخمسة آبل وجوجل وميكروسوفت وأمازون وفيسبوك لكن الاغتيال الدموي الذي وقع مؤخرًا في أورلاندو ينتمي بالضبط إلى ذلك الصنف من الأحداث الذي يمكنه تقويض القوة الناعمة. ثم هناك صعود المرشح الرئاسي الجمهوري المحتمل دونالد ترامب، الذي يُلحق تهديده بحظر جميع المسلمين من دخول الولاياتالمتحدة وببناء سور على الحدود مع المكسيك ضررًا بسمعة أمريكا كبلد ذي عقلية منفتحة. وعودًا إلى أوروبا، يقول ماكلوري إن «خروج بريطانيا يخيم على مكانة البلد العالمية على هيئة علامة استفهام عملاقة». رجل يحمل مظلة يمر من أمام مركز اقتراع وسط العاصمة لندن