في أحد الأيام أتاني أحد الكهول مرتبكا خائفا وجلا.. سلم علي وهو ينظر إلى الأسفل.. طالبا مني بضع دقائق.. قلت له تفضل.. فانطلق يتكلم عن ضغوطه وأتعابه وأمراضه ومعظمها شيء نفسي «متوهم»، استمعت إليه وبعد انتهائه من حديثه، سألته سؤالا واحدا محددا واضحا، من يصرف الكون ويملك نواصي العباد وأرزاقهم وحياتهم؟ من المالك المدبر؟ من اللطيف الخبير؟ السميع البصير؟ من الرحمن الرحيم؟ من المعطي الكريم؟ قال: الله. قلت: تذكر أسماءه وصفاته وآلاءه ونعماءه، وآياته في كتابه «المقروءة والمشاهدة»، آياته الشرعية، وآياته الكونية.. وتقرب إليه مع ذلك بالأسباب المادية فذلك يقوي فؤادك، ويجلب لك العون والمدد من الله.. تأمل مواقف الأنبياء الكرام عليهم السلام مع ما بذلوه وعانوه.. وبذلهم الأسباب العقلية والمادية كانت قلوبهم وألسنتهم مع الله «فهذا إبراهيم حاربه قومه وأرادوا إحراقه» قالوا: حرقوه وانصروا آلهتكم إن كنتم فاعلين. فقال: «حسبي الله ونعم الوكيل»، فسلب الله منها حرارتها «قلنا يا نار كوني بردا وسلاما».. واستمر مع الله «وأرادوا به كيدا فجعلناهم الأخسرين»، و«قال إني ذاهب إلى ربي سيهدين». وهود لما هدده قومه بالمحاربة والقتل قام بهم خطيبا وكان يدعوهم منذ زمن فقالوا له: «إن نقول إلا اعتراك بعض آلهتنا بسوء قال إني اشهد الله واشهدوا أني بريء مما تشركون من دونه فكيدوني جميعا ثم لا تنظرون، إني توكلت على الله ربي وربكم ما من دابة إلا هو آخذ بناصيتها»، فنجاه الله وأخذ الذين ظلموا العذاب، ولما لحق فرعون وقومه، موسى، فكان البحر أمامه والعدو خلفه خاف من معه من المؤمنين فقالوا: «إنا لمدركون»، قال: «كلا إن معي ربي سيهدين، فأوحينا إلى موسى ان اضرب بعصاك البحر فانفلق فكان كل فرق كالطود العظيم». وهكذا مع يعقوب ويوسف وصالح وأيوب ويونس ونبينا محمد في الغار ويوم الأحزاب عليهم وعلى نبينا أفضل الصلاة وأزكى التسليم، نعم لسنا بأنبياء مثلهم وليس لنا المعجزات، لكن الذي أمرهم بالتوكل عليه ودعائه والثقة به والركون إليه هو سبحانه من طلب منا ذلك «وعلى الله فتوكلوا إن كنتم مؤمنين»، «فاعبده وتوكل عليه»، «فتوكل على الحي الذي لا يموت»، «هو الحي لا إله إلا هو فادعوه مخلصين له الدين»، «وقال ربكم ادعوني استجب لكم»، وهو القادر القاهر المالك المحيي المميت فالق الاصباح وجعل الليل سكنا والشمس والقمر حسبانا.. لا يعجزه شيء ولا يتعاظمه شيء وهو على كل شيء قدير.. إن هذه العقيدة الإيمانية الواثقة إذا استقرت بالقلب وأيقنت بها النفس منحتها مخزونا نفسيا هائلا لا يحد بحدود ولا يعد بمعدود.. كيف تُعرف نواحيه وهو مرتبط بالحي العظيم القيوم.. فيتلاشى الخوف.. ويضعف القلق المرضي المانع، ويتحلى صاحبه بالهدوء والسكينة والشجاعة وعدم الخوف، لا يخاف البشر ولا تصاريف الحياة والقدر، فقلبه معلق بالله، وقد أيقن بأن ما أخطأه لم يكن ليصيبه وما أصابه لم يكن ليخطئه، ويعلم بأن الله مع عباده الصادقين المحسنين الصابرين المتقين، ولقد تأملت أواخر السور القرآنية فوجدتها تنتهي إما بذكر لله الخالق وأسمائه، أو دعاء عباده له أو صفاتهم أو جمال نهاياتهم وهزيمة عدوهم.. تأمل آخر البقرة، وآل عمران، والنساء، والمائدة والأنعام والأعراف، والأنفال الخ.. ولعل آخر التوبة واضح ببث اليقين الجميل وقوة الركن الذي يرتكن إليه المؤمن في مسيرة الحياة «فإن تولوا فقل حسبي الله لا إله إلا هو عليه توكلت وهو رب العرش العظيم». فلما انتهيت من كلامي فإذ به يرفع رأسه مرتاحا مطمئنا.. كأنما نُفخت فيه الروح من جديد.. وتنسم هواء الحياة الطيب، فأوصيته كما بدأت بتأمل آيات الله المقروءة والمشاهدة وكثرة قراءة القرآن وتأمل سنن الله في النفس والناس والكون والحياة، مهما تذهب وتجيء وتغدو وتروح.. فالله سبحانه الغني القوي الصمد الكريم الرحيم، ملجؤك الأول والأخير!