قررت أغلبية الشعب البريطاني فك ارتباط المملكة المتحدة بالاتحاد الأوروبي، ورغم أن كل قرار تتخذه الأغلبية يعد ديمقراطيا بامتياز، من حيث الشكل على الأقل، وبالتالي واجب النفاذ والاحترام، إلا أن الأغلبية ليست دائما على حق، فليس هناك ما يحول دون وقوع الأغلبية أحيانا ضحية عملية خداع وتزييف للوعي بسبب تنافس أو تصارع قوى سياسية وفكرية على مصالح خاصة لاعلاقة لها بالصالح العام، وأظن أن الاستفتاء الذي تم في المملكة المتحدة يوم 23 يونيو الماضي وأسفر عن انسحاب المملكة المتحدة من الاتحاد الأوروبي يعكس هذه الحقيقة بوضوح تام، ولا أعتقد أنني أبالغ إن قلت: إن التاريخ ربما يسجل هذا اليوم باعتباره الأسوأ في التاريخ المعاصر، لأن الأضرار الناجمة عن هذا الاستفتاء لن تقتصر على بريطانيا وحدها وإنما ستطال أوروبا أيضا، بل والعالم بأسره، وستساعد على إطلاق العنان لقوى الشر والكراهية والتطرف أينما وجدت. لم يكن الاتحاد الأوروبي مجرد تكتل اقتصادي قام لتحقيق منفعة متبادلة بين الدول المشاركة فيه، لكنه شكل إطارا مؤسسيا لنظام إقليمي استند في قيامه على فكرة إنسانية وحضارية عبقرية، مفادها إمكانية استخدام الاقتصاد كأداة لتحقيق التعايش السلمي بين الدول والشعوب، بالعمل على خلق شبكة من المصالح والمنافع المتبادلة ورفع تكلفة الصراعات والحروب بما يكفي لإغراء النخب الحاكمة على اللجوء إلى السبل والوسائل السلمية في تسوية ما قد يقع بينها من خلافات، ودفعها لنبذ اللجوء إلى القوة أو استخدام العنف لتسوية تلك الخلافات. ولأن أوروبا لم تتمكن من وضع حد لحروبها الممتدة عبر التاريخ وتحقيق الاستقرار والازدهار لشعوبها إلا بعد أن نجحت في نقل العلاقة بين دولها ومجتمعاتها من «النمط الصراعي» الذي اتسمت به قبل الحرب العالمية الثانية إلى «النمط التعاوني» الذي اتسمت به عقب انطلاق حركتها التكاملية والوحدوية، وذلك عبر عملية ديناميكة ما زالت مستمرة في التفاعل حتى الآن. ومن المعروف أن حلم الوحدة الأوروبية، والذي داعب خيال الشعوب الأوروبية على مدى قرون، لم يتجسد واقعا على الأرض إلا حين نجحت ست دول أوروبية، هي فرنسا وألمانيا وإيطاليا وهولندا وبلجيكا ولوكسمبورج، في تأسيس «الجماعة الأوروبية للفحم والصلب» عام 1950م. فقد تمتعت هذه الجماعة بديناميكية واضحة مكنتها من التوسع الأفقي، بانضمام أعضاء جدد إلى أن وصل إلى عدد الدول الأوروبية المشاركة إلى 28 دولة، ومن التوسع الرأسي، بالانتقال من التكامل القطاعي المحدود إلى التكامل الشامل والمتدرج، عبر إقامة سوق مشتركة، ثم سوق موحدة، ثم عملة موحدة، ثم الانتقال التدريجي من مرحلة التكامل الاقتصادي إلى مرحلة التكامل السياسي التي انطلقت مع قيام «الاتحاد الأوروبي»، ولأن قرار المملكة المتحدة بالانسحاب من هذه المسيرة التكاملية الطويلة والشاقة هو الأول من نوعه، يخشى أن يشكل سابقة قابلة للتكرار، وهو ما قد يؤدي إلى انفراط عقد «الاتحاد الأوروبي» وربما انهياره كليا، ويهدد بعودة العلاقات بين الدول الأوروبية إلى نفس الحالة الصراعية التي كانت عليها قبل الحرب العالمية الثانية، بل بات يخشى أن يشجع انسحاب المملكة المتحدة من الاتحاد الأوروبي على إطلاق عملية انفصالية داخل المملكة المتحدة نفسها، عبر استقلال اسكتلندا وإيرلندا الشمالية، قد تنتهي بتفكك المملكة المتحدة نفسها!!. تكمن خطورة قرار الانسحاب من الاتحاد الأوروبي في أنه يعد إنجازا لقوى التطرف الأوروبي، بجناحيه اليميني واليساري على السواء، فقد نجح كل من اليمين المتطرف واليسار المتطرف في استغلال عدد من المشكلات التي تواجهها بريطانيا ودول الاتحاد الأوروبي في اللحظة الراهنة لتوجيه الضربة التي أدت إلى فصلهما، فاليمين المتطرف استغل تناقص بعض مظاهر السيادة الوطنية لصالح المؤسسات الأوروبية المشتركة، بكل ما ينطوي عليه هذا التوجه من تزايد دور الأجهزة البيروقراطية على حساب المؤسسات المنتخبة ديمقراطيا، كما استغل تزايد أعداد المهاجرين إلى بريطانيا من داخل وخارج أوروبا، ولعب على النعرة الوطنية لتغذية مشاعر كراهية الأجانب المتجذرة في بعض الأوساط الشعبية، أما اليسار المتطرف فقد استغل بعض المشكلات الاقتصادية والاجتماعية الناجمة عن تفاقم البطالة وتقلص فرص العمل وتدهور الخدمات الصحية والتعليمية، بسبب نقص المبالع المخصصة للإنفاق على هذه الخدمات في ميزانية الدولة، للعب على المشاعر المعادية للاحتكارات الرأسمالية التي ازدهرت مع توسع السوق الأوروبية، خصوصا لدى الطبقات الكادحة. تشير التحليلات الأولية لنتائج الاستفتاء في المملكة المتحدة إلى أن أغلبية التيارات الوسطية المعتدلة سياسيا وفكريا، والطبقات الاجتماعية الأرقى تعليما وتأهيلا مهنيا، وسكان المناطق الحضرية، صوتت لصالح بقاء المملكة المتحدة في الاتحاد الأوروبي، كما تشير نفس هذه التحليلات إلى أن أغلبية التيارات المتطرفة سياسيا وفكريا والطبقات الاجتماعية التي تحتل قمة أو قاع الهرم الاجتماعي وسكان المناطق الريفية، صوتت لصالح انسحاب المملكة المتحدة من الاتحاد الأوروبي، بصرف النظر عن انتماء هذه الفئات المختلفة إلى معسكر اليسار المرتبط بحزب العمال أو إلى معسكر اليمين المرتبط بحزب المحافظين. لذا يرى كثيرون أن قرار الانسحاب البريطاني من أوروبا يعكس تنامي قوى التطرف والغوغائية السياسية الفكرية، يمينا ويسارا على السواء، ومؤشر لما هو قادم سواء في أوروبا أو المملكة المتحدة نفسها، كما يرون أن المشهد الذي جسده اغتيال النائبة العمالية البريطانية جو كوكس والتي ترمز للقوى السياسية والاجتماعية المتحمسة لبقاء المملكة المتحدة داخل الاتحاد الأوروبي على يد مواطنها توماس ماير، والذي يرمز للقوى السياسية والاجتماعية المتحمسة للانسحاب منه، عكس بطريقة أو بأخرى طبيعة المعركة التي دارت في بريطانيا خلف كواليس هذا الاستفتاء. فالنائبة العمالية التي اغتيلت تنتمي إلى تيار سياسي وفكري يؤمن بالتعددية الثقافية ويعتبر هذه التعددية مصدرا للثراء الإنساني وليس سببا للكراهية والتعصب بين البشر، ويتعاطف مع المهاجرين ويعمل على التخفيف من معاناتهم. أما قاتل هذه النائبة، والذي ألقي القبض عليه بالقرب من مسرح الجريمة وهو يهتف بأعلى صوته «بريطانيا أولاً والموت للخونة»، فقد تبين لاحقا أنه على صلة بجماعات اليمين المتطرف وأعضاء التيار القومي الأبيض ذو التوجهات العنصرية، وضبطت في منزله منشورات أصدرها «التحالف الوطني» الذي يطالب بمنع دخول المسلمين إلى بريطانيا، وكان على صلة بميليشيا «الدوريات المسيحية» التي هاجمت عددا من المساجد في لندن وبرمنغهام ومانشستر، لذا فإن فوز المعسكر المطالب بانسحاب بريطانيا من الاتحاد الأوروبي، رغم اغتيال النائبة العمالية، يعد مؤشرا واضحا على تصاعد النزعات القومية والعنصرية ليس فقط في المملكة المتحدة وإنما في أوروبا والعالم. تجدر الإشارة هنا إلى أن قوى اليمين المتطرف في دول أوروبية بعينها، في مقدمتها فرنسا، بدأت تلح في المطالبة بتنظيم استفتاءات مماثلة في بلادها، للاستفادة من زخم اللحظة الراهنة في ضوء نتائج الاستفتاء البريطاني، وهو ما يعد في حد ذاته دليلا على أن ساحة المعركة التي انطلقت شرارتها من بريطانيا قابلة للتمدد والاتساع بسرعة عبر حدود أوروبا كلها، كما تجدر الإشارة في الوقت نفسه إلى تيارات وحركات قومية انفصالية داخل المملكة المتحدة، كالحركة القومية في اسكتلندا، بدأت تتحرك للمطالبة بتنظيم استفتاءات جديدة للتعرف على رغبة سكان بعض الأقاليم في البقاء أو الانفصال عن المملكة المتحدة في ضوء المعطيات والحقائق الجديدة التي يفرضها قرار الانسحاب من الاتحاد الأوروبي، مما يوحي بأن الأزمة التي بدأت تجتاح أوروبا لن تقتصر على النظام الإقليمي الأوروبي وحده لكنها قد تمتد لتشمل الدولة الوطنية أو القومية في تلك القارة العجوز التي ابتدعت وطبقت هذا المفهوم. بعبارة أخرى يمكن القول إن انسحاب المملكة المتحدة من الاتحاد الأوروبي قد يكون بداية لعملية تفكك مزدوج يشمل النظام الإقليمي الأوروبي بانسحاب متتابع لعدد من الدول الأعضاء من الاتحاد الأوروبي، كما يشمل تفكك دول أوروبية بعينها، خصوصا الدول متعددة القوميات أو المذاهب، فإذا ما تأكدت صحة هذا التحليل وتبين أن لهذه المخاوف ما يبررها فسنكون إزاء منعطف تاريخي في مسار العلاقات الدولية، يعكس حجم التعقيدات التي تكتنف عالما يتجه نحو التوحد، تحت ضغط العولمة المرتبطة بطبيعة النظام الرأسمالي وتطور تكنولوجيا الاتصالات، كما يتجه في الوقت نفسه نحو التفتت والانشطار، تحت ضغط الخصوصيات القومية والتنوع الثقافي والعرقي، في غياب عملية منضبطة للحوكمة على مختلف الصعد المحلية والإقليمية والدولية، فإلى أين يتجه النظام العالمي في ظل ضغوط تبدو متعارضة إلى هذا الحد؟.