تختزل بعض القصائد في بيت ما، عندما يشيع ويشتهر بين الناس لأنهم وجدوا فيه مادة معنوية قوية تصف حالة الدهشة التي تتملكهم أمام حدث ما، أو تعبر عن رأيهم في شخص ما، ولهذا غالبا ما تنتشر الأبيات التي تحمل حكمة قوية المعنى، أو نصيحة مؤثرة بغض النظر عن الموضوع أو الموضوعات التي تكونت منها القصيدة. وفي الديوان العربي أكثر من قصيدة تستحق أن تذهب كلها حكمة سائرة بين الناس، ومنها: القصيدة الزينبية لصالح عبدالقدوس وهو من شعراء العصر العباسي، وقد نسبت خطأ لعلي بن أبي طالب رضي الله عنه. وليس هذا هو الخطأ الوحيد في حقها، فحتى أبياتها حدث فيها خلط ما، فقد يستبدل شطر بيت بآخر، أو تحذف مجموعة أبيات وتستبدل بأخرى ففي أحد النصوص ستجد أبياتا عن المرأة، ولا تجدها في نص آخر، وهي أبيات تطلق أحكاما عامة على النساء بصفتهن مخلوقا قابلا للانقسام في أجساد مختلفة، ولكن بصفات موحدة!! ولعل من حذف تلك الأبيات أراد أن يجعلها مناسبة أكثر لفكر الخليفة البليغ علي بن أبي طالب، إذ لا يصح أن يصدر منه هذا الفكر ضد المرأة، أو لعله أراد أن يسوق لأفكار الشاعر في نصه بعيدا عن تلك الأحكام العامة على النساء التي قد تتسبب في عدم الثقة في الشاعر ورأيه فهو حين يقول: وتوق من غدرِ النِساءِ خيانة فجميعُهُن مكايد لك تُنصبُ لا تأمنِ الأنثى حياتك إنها كالأفعُوانِ يُراغُ منهُ الأنيبُ لا تأمنِ الأُنثى زمانك كُلهُ يوما ولو حلفت يمينا تكذِبُ ربما يصور رأيه الخاص في نوع واحد من النساء، ولكن أكل النساء كما يصف؟ هنا يبدأ الشك في مصداقيته في الآراء الأخرى التي طرحها في قصيدته. هذه القصيدة من بيتها الأول إلى السادس والخمسين، حيث تنتهي هي عبارة عن حكم ونصائح متوالية تلخص تجارب الحياة في كل شأن لا بد أن نمر به جميعا بدءا من العلاقة مع الله، ثم العلاقة مع الناس في كل الأحوال وفي أنواع مختلفة من العلاقات مع الأقربين منهم والأباعد، مرورا بالعلاقة مع الذات، بالإضافة لمتطلبات الحياة بينهم أو بعيدا عنهم كالتعامل مع المال أو غيره من الأمور التي تتطلب تعاملا حكيما معها حين تتقلب بنا الحياة، ورغم التنوع في أفكار النص لا يتذكر الناس منه سوى قوله: يعطيك من طرف اللسان حلاوة ويروغ منك كما يروغ الثعلب وهو بيت يستخدم للتذمر من شخص كهذا، أو التعبير عن نبذ من يتصف بهذه الصفة، ولعل هذا الشيوع لهذا البيت تحديدا يشير إلى ميلنا لنقد الآخر قبل الالتفات إلى ما يفيدنا في مجالات أخرى تكون أكثر فائدة لنا من التوقف عند من يروغ كالثعلب، حتى إذا سلمنا بأن البيت يعبر عن حالة إنسانية موجودة فلابد أن نكون قد صادفنا في حياتنا من يمثلها، ذاك الذي يعطي أحلى الكلام والوعود ولكن حين يأتي وقت الوفاء بالوعد تجده يروغ منك وكأن ما قاله لم يكن، وما وعد به لم يوف!! وإذا استحضرنا أبياتا أخرى جميلة من القصيدة نجد مثلا: لا تحرصن فالحرص ليس بزائد في الرزق بل يشقي الحريص ويتعب أد الأمانة والخيانة فاجتنب واعدل ولا تظلم يطيب المكسب واحذر من المظلوم سهما صائبا واعلم بأن دعاءه لا يحجب واحفظ لسانك واحترز من لفظه فالمرء يسلم باللسان ويعطب لا بد أن نتساءل عن سبب عدم انتشارها بيننا أو ترديدها من وقت لآخر حين يتطلب الأمر استخدام هذه المعاني الجميلة التي إن طبقناها استقامت أمور الناس وأحوالهم وعلاقاتهم، وأحسب أن عدم انتشار هذه الأبيات الجميلة هو أنها من النصح المركز الذي يبدأ بالأمر لفعل ما، أو النهي عن فعل ما. فما سر هذا النفور من النصائح؟ ألأنها تواجه الإنسان بضعفه؟ فهو غير قادر على الاستجابة لهذه الأوامر، فإن هو نجح مرة فسيخفق في الأخرى، أم لأنها تتعلق به مباشرة دون غيره؟ بعكس السابقة التي اشتهرت وذاعت لأنها تعبر عن نظرته للآخرين بعيدا عن نظرته لذاته وما يمكن إصلاحه أو تقويمه. نعم، أرى أن هذا هو السبب المرجح لغياب القصيدة وحضور بيت واحد فقط. والأمر ينطبق على كثير من النصح الشعري في القصيدة العربية الذي صدت عنه النفوس وتعلقت ببعض الأبيات التي تعبر عن الفخر المبالغ فيه، أو وصف الذات بصفات ترفع من شأنها وتقلل من شأن الآخرين. كقول المتنبي: وإذا أتتك مذمتي من ناقص فهي الشهادة لي بأني كامل الذي صار يتردد على لسان كل ناقص أكثر من غيرهم! أو ما قاله عمر بن كلثوم: إذا بلغ الفطام لنا صبي تخر له الجبابر ساجدينا ألم يفاخر بهذا البيت كل صبي أحمق؟ غريب أمر بني البشر حين يميلون كل الميل لصالحهم حتى وهم يدركون كذبهم، وكم من حياة في قصيدة وكم من جهل في أخرى تموت الأولى وتبقى الثانية نابضة في عروق الضعفاء.