لقي الزعيم المحوري لحركة طالبان الأفغانية، الملا محمد أختر منصور، حتفه على أيدي القوات الأمريكية مؤخرًا، وذلك بعد مرور أسبوعين على مقتل القيادي الكبير في تنظيم «داعش» أبو وهيب في ضربة جوية. وهذا جزء من استراتيجية أمريكية متبعة منذ فترة طويلة تهدف إلى قطع رؤوس التنظيمات الجهادية وفي الوقت نفسه قتل عناصرها الذين يشكلون المستوى الأوسط. فمن خلال الضربات الجوية بطائرات بطيار وبلا طيار ومن خلال المهام التي تنفذها قوات العمليات الخاصة، تمكنت الولاياتالمتحدة من قتل المئات من القياديين الجهاديين منذ أحداث 11 سبتمبر. ومن أبرز القياديين الذين استُهدفوا بالاغتيال قبل هدفي مايو الجاري التالية أسماؤهم: مؤسس تنظيم القاعدة أسامة بن لادن، الذي قُتل في باكستان في 1 مايو 2011. مؤسس تنظيم داعش أبو مصعب الزرقاوي، الذي قتل في العراق في 7 يونيو 2006. زعيم تنظيم القاعدة في العراق أبو أيوب المصري، الذي قتل في 18 أبريل 2010 هو وأمير دولة العراق الإسلامية أبو عمر البغدادي. قائد القوات المسلحة في تنظيم داعش أبو عمر الشيشاني، الذي قتل في سوريا في 14 مارس 2016. زعيم تنظيم قاعدة الجهاد في جزيرة العرب والمواطن الأمريكي أنور العولقي، الذي قتل في اليمن في 30 سبتمبر 2011. القيادي في حركة الشباب حسن علي دوري، الذي قتل في الصومال في 1 أبريل 2016. قائد تنظيم داعش في ليبيا أبو نبيل، الذي قتل في ليبيا في 13 نوفمبر 2015. مؤسس حركة طالبان الباكستانية بيت الله محسود، الذي قتل في منطقة القبائل المدارة فيدراليًّا في باكستان في 5 أغسطس 2009. الافتراض الماثل هنا هو أن الهجمات المركزة على القياديين الأفراد ستؤدي على المدى البعيد إلى شل التنظيم. والسؤال الذي يطرح نفسه هو ما إذا كان استهداف أفراد داخل التنظيمات ساعد أم لا على تحقيق الغرض الاستراتيجي من وراء الحرب على التطرف الإسلامي. وفي هذا السياق، يقول جورج فريدمان، مؤسس شركة «ستراتفور» الأمريكية المعنية بالتحليلات الاستخباراتية والجيوسياسية: «ليس من السهل تعريف أهداف الولاياتالمتحدة الاستراتيجية. وسوف أعرّف هدف الولاياتالمتحدة الاستراتيجي في هذه الحرب على أنه حرمان التنظيمات الجهادية من القدرة على شن هجمات كبيرة ضد الولاياتالمتحدة وفي المقام الثاني ضد أوروبا، والوسيلة إلى ذلك هي إنشاء حكومات فعالة في البلدان الإسلامية بحيث تكون قادرة على مهاجمة الحركات الجهادية وتدميرها. ومن أجل إنشاء مثل هذه الدول، من الضروري أولًا تدمير التنظيمات الجهادية، بما أنه لا يتسنى إنشاء حكومة مستقرة ريثما يتم تدمير هذه التنظيمات». وأضاف فريدمان: «لو بدا للقارئ أن الاستراتيجية الأمريكية تنطوي على استدلال دائري، فهذا ما أحاول إثباته. نحن بحاجة إلى وجود حكومات مناهضة للجهاديين في مركز السلطة لتدمير الجهاديين، ويجب علينا أولًا أن ندمر الجهاديين لكي نسمح لهذه الحكومات بالوصول إلى السلطة، ولا يمكن تدمير هؤلاء الجهاديين ريثما تصل هذه الحكومات إلى السلطة. أحد الردود على هذه الاستراتيجية هو أن نتخلى عنها، ونحاول اكتشاف نهج جديد، وإذا أخفق ذلك، فأن نقبل الواقع. وهناك رد آخر عليها وهو أن نجادل بأن الهدف أهم من أن نتخلى عنه، وأن نحاول تحقيقه إما بإنشاء حكومات قابلة للاستمرار وإما بتدمير الجهاديين». حاولت الولاياتالمتحدة إنشاء دول مستقرة، فحققت هذه المحاولات نجاحًا هامشيًّا في أحسن الأحوال، وبالتالي فهي تعكف على محاولة تدمير الجهاديين. ولا شك أن هذا هو المجال الذي ينصب عليه تركيز الولاياتالمتحدة في هذه المرحلة، وهو شيء يحدث على الأرجح لعدم وجود بديل آخر لا اختيارًا، مما أفضى إلى عمليات القتل التي رأيناها على مدى الأسابيع الماضية. يقول فريدمان: «ليس لديّ اعتراض أخلاقي على هذه الهجمات، فالهدف في الحرب هو تدمير قدرات العدو العسكرية، ولو كان الهجوم على قادة العدو سيساهم في تحقيق هذا الهدف، فأنا لا أرى أن القتل المتعمد لفرد معين يقل في أخلاقيته عن قتل الكثير من الأفراد مجهولي الهوية. وتتمثل القضية بالنسبة لي فيما إذا كانت هذه الاستراتيجية ستفلح أم لا. وأنا لا أطرح هذا السؤال بأثر رجعي؛ لأنه من الواضح أن هذه الاستراتيجية لم تتمخض عن تحقيق الهدف الاستراتيجي حتى هذه النقطة. والسؤال الوحيد الذي يستحق أن نطرحه هو ما إذا كانت هذه الاستراتيجية ستحقق هذا الهدف في المستقبل أم لا». هناك نوعان من الجماعات السياسية العسكرية، هما الهش والمتين، ولا ترتبط هذه الهشاشة والمتانة بحجم الجماعة وحده، بل ترتبط أيضًا بطريقة تنظيم الجماعة وكيفية قيادتها. والتجارب الأولى التي خاضتها الولاياتالمتحدة مع جماعات إرهابية كانت تنطوي على جماعات راديكالية متنوعة بالإضافة إلى بعض الجماعات الإرهابية في أوروبا في سبعينيات القرن الماضي وثمانينياته، بحسب فريدمان. نُظّمت هذه الجماعات - المتأثرة أشد التأثر بالنماذج السوفيتية (وفي بعض الحالات بالمستشارين السوفيتيين) - تنظيمًا هرميًّا بحيث تكون خلية القيادة ضرورية لا غنى عنها لعمليات الخلايا التي من دونها وبحيث تكون كل خلية منفصلة عن الأخريات، وقد صُمّم هذا النظام ليكون متينًا، لكنه في الحقيقة هش؛ لأن أي فشل استخباراتي يؤدي إلى كشف القيادة، أو أي اختراق على المستويات الدنيا يسمح للاستخبارات ب«الزحف» خلال النظام وتحديد عناصره ببطء، كان من شأنه أن يؤدي إلى إفشال التنظيم. كانت عملية وقف الاتصالات بغرض اتقاء عمليات الاختراق المتصورة تصيب التنظيم بالشلل، وفي الوقت المناسب، كان يتم العثور على القيادة أيضًا. كانت المتانة الظاهرية التي تتسم بها هذه التنظيمات في واقع الأمر تعوقها. كان هدفها الأول هو الأمن، وكانت كفاءتها في حماية ذاتها تصيبها بالشلل. كما أن انشغال التنظيم بمسألة الأمن كان يحد من حجمه ويتمخض عن أنظمة تجنيد بالغة التعقيد، وبالتالي كانت الخروقات التي تحدث يصعب رأبها. لم يكن تفكيك هذه الجماعات الأوروبية والراديكالية بالعمل السهل، لكن دفاعاتها ساعدت كثيرًا في هذا الشأن. ويرى فريدمان أن هذه جماعات هشة، وأن أسامة بن لادن درس مواطن قصورها لكي ينشئ نظامًا أكثر متانة، إذ لم تكن القاعدة تنظيمًا هرميًّا بل كانت كيانًا منتشرًا، كما أنها لم تعزل نفسها عن المجندين المحتملين بل شجعتهم. كان شيئًا مقبولًا أن هذه الاستراتيجية ستترك طبقات من التنظيم - بل وقيادة التنظيم ذاتها - عرضة للتدمير، إذ كانت هذه مخاطرة مقبولة تم التعويض عنها بطريقتين. أولًا: تم تجنيد معين دائم من الأعضاء القادرين على استحداث مسارات بديلة أو العمل على نحو مستقل. ثانيًا: بقبول التنظيم فكرة تعرّضه للاستنزاف بمرور الوقت، أنشأ كادرًا كافيًا من الأفراد المقتدرين بحيث يتسنى تأسيس تنظيم أو إيجاد قائد يخلف التنظيم الأصلي أو قيادته في مكان ما. كان هذا تنظيمًا متينًا، وقد تمكن من البقاء من خلال كونه سيئ التصميم مقارنة بالجماعات الأخرى كتنظيم الجبهة الشعبية لتحرير فلسطين أو تنظيم الكتائب الحمراء. ومع ذلك فقد كان تنظيم «القاعدة» أمتن كثيرًا من هذه التنظيمات. كان اعتقال العناصر القيادية في التنظيمات الجهادية، أو إجبار هذه التنظيمات على وقف نشاطها دفاعيًّا، أسهل بكثير من استقصاء فوضاها المتعمدة. ونحن نسمع على الدوام عن تعرض مسؤولين كبار للقتل ونتساءل كم يوجد من هؤلاء المسؤولين الكبار. الأمر كله يتوقف على المهمة والمكان والظروف. ينظر البعض إلى هذا باعتباره من عمل الهواة، أما فريدمان فيراه قمة الاحترافية. فالجهاديون، نظرًا لأنهم يعرفون مواطن قوة أعدائهم، يرفضون إعطاءهم هدفًا يفهمونه. وبما أن هذه الجماعات تنظر إلى قاعدة الدعم الكبيرة كجزء لا يتجزأ من النظام، بدلًا من كونها مخاطرة أمنية، فإنها تحتفظ بدرجة من التعتيم من واقع الفوضى. صحيح أنها أقل كفاءة لهذا السبب، لكنها تستطيع البقاء ككيان. بعبارة أخرى نقول إن هذه التنظيمات تستفيد من كونها حركة بدلًا من أن تجتزئ نفسها من هذه الحركة. وهي لن تسمح لحاجتها إلى الأمن بأن تتحول إلى أداة يمكن لعدوها استغلالها ليصيبها بالشلل. وبحسب الباحث، فإن المشكلة فيما يتعلق ببرنامج القتل المستهدف لا تكمن في كونه غير أخلاقي، بل في كونه غير عملي. «فالقاعدة تحت ضغط تحولت إلى داعش. وداعش غيرت شكلها إلى قوة مسلحة». ولو نجحت هذه القوة المسلحة، فلا بأس، ولو لم تنجح، فسوف تتحول عائدة سيرتها الأولى كتنظيم إرهابي في المقام الأول. وهي تنظيم متين لأنها لا تضم شخصًا لا يمكنها الاستغناء عنه، وهي تبدّل قيادتها تبعًا للمهمة المطلوب تنفيذها وبأساليب لا يمكن التنبؤ بها. وهي متينة كذلك لأنها تستغل حقيقة كونها حركة لمصلحتها. لم يُفض قضاء فترات زمنية مطولة في تحديد الشخصيات المهمة وقتلها إلى إطار لإنشاء أمم مستقلة؛ لأن الجماعة الجهادية مصممة لكي تتمكن من البقاء على قيد الحياة بعد موت طبقات كاملة من تنظيمها. وحتى عند النجاح في تدمير تنظيم ما، فإن الحركة لم تزل موجودة فحسب، بل هي مختلطة أيضًا بالتنظيم. ويلفت فريدمان في ختام تحليله إلى أن عمليات القتل المستهدف تواصلت على مدى نحو 15 سنة، وأيًّا ما كان الذي حققته، فإنها لم تحقق الغرض الاستراتيجي من الحرب. «ولن أجادل بأنها ألحقت ضررًا بهذا الهدف، لكنها كانت في أفضل الأحوال منقطعة الصلة به». من الجائز أن الاستراتيجية انقضت منذ زمن طويل، وأن الولاياتالمتحدة تنفذ هذه العمليات لأنها لا تعرف ماذا تفعل غير ذلك، والأمل يحدوها - على نحو أشبه بشخصية السيد ميكوبر للأديب تشارلز ديكنز - في أن يحدث شيء ما. «لكن الشيء الذي يجب أن يحدث هو التوصل إلى نهج يتخلى عن الهدف أو يحدد استراتيجية جديدة. فالبلدان الإسلامية تتعرض لزعزعة استقرارها على أيدي الجهاديين، وهي لا تستطيع المساعدة على تدمير هؤلاء الجهاديين. كما أن العمليات الخاصة المنفذة ضد أهداف محددة لم تفلح هي الأخرى».