لا أعرف السبب الذي قادني إلى هذا المكان، إلى محطة القطار تحديداً، حيث اخترتُ مكاناً للجلوس بالقرب من كشك صغير للعم حامد، يبيع فيه الصحف والمجلات والسجائر والهدايا الخفيفة. من هذا المكان تحديداً بدأتُ أتأمل وجوه المسافرين، أطاردها من بعيد، ألاحق نوازعها الهاربة، فقد بدأت أرسمها، أرسمها بالتعب نفسه، وباللون نفسه، وبالظل نفسه، أخطها سريعا ثم أعيدها ببطء شديد. مع كل صباح يطل عليّ العم حامد بقامته السمراء الطويلة ليسألني ويتحدث معي بصوته الخشن عن مستجدات الأخبار السياسية والاجتماعية التي لا أعرف شيئاً عنها، لكنه سرعان ما يجيب عنها تاركاً شهوته للكلام منسابة إليّ، فقد كنتُ غير مبالٍ بما يقول الأمر الذي جعله يغادرني بصمت وأنا مستغرقا في رسوماتي. وجوه عديدة تعبر من أمامي، ألامس فيها رغبة المغادرة وحنين الوصول إلى الجهة الأخرى من مكان آخر بعيد، ومع ذلك أرسمها، أرسم السفر المخبوء فيها، أتأمله تارة ثم أعيده في اللوحة التي أمامي، ألطخها باللون كفضاءات ثابتة لأشياء متحركة سريعة، السرعة نعم، فهم جميعا هنا سريعون قلقون، هاربون، قلة الذين يقفون أمامي لرسمهم، امرأة بدينة تطلب مني رسمها، رجلٌ أربعيني يطلب مني رسمه مع أني تجاهلت شنبه الكثيف، فتاتان قصيرتان بملابس رثة قديمة. بعد مضي ثلاثة أعوام تقريباً فكرت جدياً في المغادرة، أريد أن أركب قطاراً من هذه القطارات التي أراها كل يوم، ولم يحصل لي أن ركبت أحدها. لابد أن أتخذ قراراً في ذلك، جئت مبكرا كعادتي إلى المكان نفسه الذي أجلس فيه للرسم، سلّمت على العم حامد وقلت له: لقد اتخذت قراراً جديداً، ولأول مرة، قال لي: ما هو؟ أريد أن أركب قطاراً اليوم. قال لي: إلى أين؟ إلى أي مكان يا عم حامد، أريد أن أسافر، ثم أعود. قال لي: ألا تعرف أن العمّال وسائقي القطارات قد أضربوا عن العمل في هذا اليوم لتأخر رواتبهم عدة أشهر، وها هي الصحف والجرائد تتصدر صفحاتها الأولى وعناوينها هذا الحدث، ماذا تقول؟!، لا، مستحيل. أريد أن أركب قطارا، أريد أن أغادر. * قاص من السعودية بالتنسيق مع موقع القصة العربية