الحرفية اتجاه فقهي يعنى بألفاظ النصوص، والمعنوية اتجاه يقابله يعنى بمعاني النصوص وعللها ومقاصدها، وبين الطرفين أطياف، وكلا الاتجاهين مؤثر في حركة الاجتهاد والفقه والفكر، وكلاهما ينضوي نظريا على حتمية وجود الصواب الذي استودعه الله في نصوص الوحي، واختلاف الفقهاء فيه لا يعني تعدد الصواب في معين ولا انعدامه، بل هو موجود يحتمل إدراكه بتوفيق الله والعجز مرده نقص المعرفة أو خلل في المنهجية وأدوات الوصول إليه. إن المدارس الفقهية معظمها يتفق على حتمية وجود الصواب، ولكن الخلل في التحول عمليا إلى وصاية عليه، حيث أنتج ذلك تعصبا، رسخ اعتداد بعض المجتهدين بآرائهم وتعصب الأتباع والعامة لهم، حتى سادت أدواء التعصب المذهبي في العالم الاسلامي قرونا طويلة، دون اعتبار حقيقي باختلاف دلالات النصوص والاختلاف في عللها والمقاصد الكلية التي تؤسس لها، ودون التفات لتفاوت الأفهام في النصوص وملابسات الواقع المصاحبة لها وتطوراتها وتفاعلاتها، فالعذر للمجتهد المخالف المعتد به شرعا مفقود إلا عند من رحم الله وقليل ما هم. لقد أصبحت هذه حالة عامة، ويقين شائع عند كثير من الأفراد والمؤسسات الدينية والسياسية، حتى تجذرت العصبية والأحادية والاقصاء والانقسام في عالم الدين والتدين وفي تنظيم العلاقة بين السلطة والأفراد والمجتمعات الاسلامية، فآلت الحال إلى أزمات فقهية وفكرية وسياسية واجتماعية كبرى وصراعات دينية، لا مجال لتفكيكها إلا بمواجهة هذا الخلل المنهجي وتصحيحه عمليا، وكل تأجيل يزيد من توسع ممارساته وتعميقه والتضليل به، والعجب أن ترى من يتبنى التعصب المذهبي -مع أنه يدعو لمحاربة التطرف والتعصب- سببا من أسباب التطرف، فهو يدعو لمحاربة التطرف ويعمل بأسبابه شعر أم لم يشعر. إن الاجتهاد والبحث عن الصواب من خلال النصوص عمل فكري مشروع، والاختلاف في ذلك أمر وارد فيما هو تعبدي صرف وفيما هو غير تعبدي بشكل أوسع، وعدم الالتفات للاختلاف في دلالات النصوص وعللها ومقاصدها وملابسات الواقع وتطوراته جمود مؤثر، والواجب على التيارات العلمية والفكرية أن تؤسس لنسبية إدراك الصواب في اطروحاتها، اعتبارا بأسباب الاختلاف ومتغيرات البحث الديني، وحتى تهيئ مناخا صحيا واعيا لمناقشة الأفكار والجدل السلمي لفهم أرشد. إن النظرة الحرفية والنظرة المعنوية تبدوان على طرفي نقيض، وهما في الحقيقة مكونان لمنظومة المعرفة المسترشدة في البحث عن الصواب، فأرباب النظرة الحرفية وكذلك المعنوية يوقنون بحتمية وجود الصواب إلا أنهم يوقنون بتفاوت الأفهام فيه، وأن الوصول إليه مشوب دوما بالخطأ والجهل والتأول، وأن مشروعية الاجتهاد حق ثابت، وأن الخطأ فيه وارد وصاحبه معذور مأجور، وعبارات المجتهدين في كتب التراث دوما تذيل بقولهم: (والله أعلم)، ما يعني أن الصواب المطلق لا يعلمه إلا الله. فما يقع عمليا من تعصب لفريق على فريق في ترجيح الصواب على أنه دين الله المعصوم، خلل عملي كبير يترتب عليه خلط فاسد، ومساواة جهد بشري يرد عليه الخطأ بمعصوم مقدس غلو محرم، والحق الأخذ بالنسبية التي تجعل المعرفة الناشئة عند المجتهد محتملة للخطأ، وتؤسس لإدارة الشكّ والجهل لتصل بالفكر إلى أفضل الممكن، وتتسع لكل الأفكار والمقولات وتفسح المجال للحوار السلمي للوصول لأرشد الممكن ولا تجعله معصوما، ولا تمنح بشرا الاستقلال بإدراك الصواب أو تحديده أو احتكاره، فوجود الحق لا يعني احتكار معرفته أو الوصاية لأحد عليه، والاجتهاد عمل بشري غير معصوم يحتمل الخطأ، قابل للتغيير والمراجعة ويشوبه اختلاف في القدرات والمعارف والوقائع وتفاوت في النظر للمصالح والمفاسد وقد تصحبه أهواء ودوافع سامية وواقعية وفاسدة. وما اختلف الناس فيه مما لا تقطع به نصوص الوحي المتفق عليها في المصالح العامة مرده الشورى الراشدة وأدواتها، ورأي السلطان فيه مرجع لازم للجميع ليس لأنه صواب في ذاته بل اعتبارا بحق السلطان الذي يرفع الخلاف ولا يزيله، فندير به خلافنا ونقص معرفتنا دون إقصاء أو استبداد.