ينظر بصفة عامة إلى حركة النهضة التونسية، على الصعيد الفكري على الأقل -إن لم يكن على الصعيد التنظيمي- كفرع من شجرة «الإخوان المسلمون» التي كان الشيخ حسن البنا قد نجح في غرس بذرتها في التربة المصرية منذ ما يقرب من قرن من الزمان. ولا تنطوي هذه النظرة على أي محاولة للتقليل من شأن حركة النهضة أو للتشكيك في استقلاليتها أو خصوصيتها، كحركة تونسية نشأت وترعرعت في بيئة تحمل سمات وخصائص وبصمات المجتمع التونسي، بقدر ما تنطوي على تذكير بحقيقة تاريخية تبدو ضرورية لكل من يسعى للتعرف على المعالم الرئيسة للمسيرة الفكرية والسياسية لهذه الحركة وما طرأ على هذه المسيرة من تحولات، مقارنة بمسيرة التنظيم الأم، والانعكاسات المحتملة لهذه التطورات على مستقبل تيار الإسلام السياسي سواء في المنطقة العربية أو في العالم الإسلامي ككل. من المعروف أن «جماعة الإخوان المسلمين» في مصر- وهي التنظيم الأم الذي تفرعت عنه كل حركات وفصائل وتيارات «الإسلام السياسي» بعد ذلك- ظهرت في البداية كجماعة دعوية «تأمر بالمعروف وتنهى عن المنكر»، ثم ما لبثت أن تحولت بسرعة إلى حركة سياسية واجتماعية شاملة تقوم على فهم خاص جدا للإسلام. فإلاسلام عند حسن البنا هو: «عبادة وقيادة، ودين ودولة، وروحانية وعمل، وصلاة وجهاد، وطاعة وحكم، ومصحف وسيف، لا ينفك واحد من هذين عن الآخر، وإن الله ليزع بالسلطان ما لا يزع بالقرآن»، ويحتوي على مبادئ وقيم وقواعد يمكن للمسلمين - إن أرادوا- أن يستنبطوا منها ما يحتاجونه من نظم سياسية واقتصادية واجتماعية وثقافية كفيلة بعلاج جميع الأمراض التي تعاني منها الشعوب العربية الإسلامية. لذا عرف البنا جماعة الإخوان بأنها: «دعوة سلفية، وطريقة سنية، وحقيقة صوفية، وهيئة سياسية، وجماعة رياضية، ورابطة علمية ثقافية، وشركة اقتصادية، ورابطة اجتماعية» في الوقت نفسه. فهي من وجهة نظره: 1- «دعوة سلفية»، لأنها تدعو إلى العودة بالإسلام إلى معينه الصافي من كتاب الله وسنة رسوله، و 2- «طريقة سنية»، لأنها تحث أعضاءها على العمل بالسنة المطهرة في كل شيء، و 3- «حقيقة صوفية»، لأنها تعتبر أن أساس الخير طهارة النفس ونقاء القلب والمواظبة على العمل والإعراض عن الخلق والحب في الله والارتباط على الخير، و 4- «هيئة سياسية: لأنها تطالب بإصلاح الحكم في الداخل وبإعادة صياغة علاقة الأمة الإسلامية بغيرها من الأمم، وتربية الشعوب الإسلامية على العزة والكرامة، و 5- «جماعة رياضية»، لأنها تحث أعضاءها على العناية بأجسامهم، من منطلق أن «المؤمن القوي خير من المؤمن الضعيف» و 6-«رابطة علمية ثقافية» لأن الإسلام يجعل طلب العلم فريضة على كل مسلم ومسلمة، و6- «شركة اقتصادية» لأن الإسلام يعنى بتدبير المال وكسبه من وجهه الصحيح، و7- «فكرة اجتماعية» لأنها معنية بالبحث عن دواء للداء الذي أصيبت به المجتمعات الإسلامية. فتنظيم الإخوان، وفقا لهذا المفهوم الشامل، مسؤول عن إعداد الكوادر المنوط بها حمل لواء مشروع البنا ووضعه موضع التطبيق. من الطبيعي، في سياق كهذا، أن تبدو الأفكار التي تبناها الشيخ راشد الغنوشي، قبل أيام من انعقاد المؤتمر العاشر لحركة النهضة - والذي انعقد فعلا في مدينة الحمامات خلال الفترة من 20-22 من شهر مايو الجاري، ومطالبته بالفصل بين «الدعوي» و«السياسي» في فكر الحركة، وتأكيده على أن الحركة ستكتفي ببناء حزب سياسي حديث وستترك شؤون الدعوة والأمور الفقهية للمتخصصين في علوم الدين والفقه - أفكارا تغرد خارج سرب الفكر التقليدي لتيار الإسلام السياسي عموما ولفكر جماعة الإخوان بصفة خاصة، وتشكل معلما هاما في مسيرة الحركة. وكما كان متوقعا، أثارت هذه الأفكار ولاتزال تثير جدلا حادا حول ما تحمله من مضامين ومن دلالات حقيقية، وحول اسباب وتوقيت طرحها، وحول تاثيراتها المحتملة على مستقبل الحركة. فمن حيث المضامين والدلالات، يرى البعض أنه لا جديد في طرح يطالب بالفصل بين الدعوي والسياسي إذا كان يقصد به مجرد الفصل الوظيفي الذي يحظر على كل من يرغب من أعضاء الحركة في ممارسة العمل السياسي العام ممارسة العمل في المجال الدعوي أو الاجتماعي، وفي الوقت نفسه حظر العمل كناشط سياسي لكل من يرغب من أعضاء الحركة في التخصص في العمل الدعوي وفي المجالات الاجتماعية. ويرى أنصار هذا الرأي أن الفصل في هذه الحالة يفيد النشاط السياسي للحركة كما يفيد نشاطها الدعوي والاجتماعي في الوقت نفسه، وبالتالي يمكن أن يؤدي إلى تخفيف العبء على الجميع ومساعدة أعضاء الحركة على المزيد من الإجادة والاتقان في مختلف المجالات. أما إذا كان المقصود هو الفصل بين الدين والدولة وتبني نهج مماثل للنهج «العلماني» الذي سارت فيه المجتمعات الغربية فمن شأن هذا الطرح أن يزيل عن الحركة طابعها الإسلامي وتصبح مرجعيتها الفكرية مجرد مرجعية شكلية خالية من اي مضمون. ومن شأن هذا التطور، في رأي هؤلاء، أن يعيق تطور الحركة لا أن يساعد، وأن يزيد الفجوة بين القيادات التاريخية للحركة وكوادرها النخبوية، من ناحية، و قواعدها الشعبية، من ناحية أخرى. ومن حيث التوقيت والأسباب يرى البعض أن هذا الطرح يقصد به التأقلم مع الضغوط المحلية والإقليمية والدولية التي يواجهها تيار الإسلام السياسي عموما، وحركة النهضة خصوصا، والتي تستهدف ليس فقط إفشال ثورات الربيع العربي وإنما إفشال كل الفصائل والحركات التي تنتمي للإسلام السياسي عموما. ووفقا لهذا الرأي ينظر إلى الطرح الفكري الجديد باعتباره تحركا تكتيكيا يستهدف التخفيف من حدة الضغوط والتسلح بقدر أكبر من حرية الحركة التي تتيح لحركة النهضة مرونة أكبر في التعامل مع المتغيرات وفي إبرام الصفقات والتحالفات، وبالتالي استعادة المواقع التي فقدتها الحركة، وليس باعتباره تغيرا جوهريا في فكر الحركة. بل إن فريقا من هؤلاء يعتقد أن المراد هو مجرد عمل دعائي لتسليط الضوء على حركة النهضة من جديد، على امل أن تتمكن من استقطاب قطاعات جديدة من الشباب، خصوصا من صفوف الأغلبية الصامتة، ولبث الخلافات والانقسامات في صفوف القوى العلمانية يمينا ويسارا. بل إن البعض يذهب إلى حد التأكيد على أن هذا التطور قد يكون محاولة لتهيئة المجتمع التونسي لترشح الشيخ الغنوشي للانتخابات الرئاسية القادمة. أما من حيث التأثيرات المحتملة لهذا الطرح الجديد، سواء بالنسبة لمستقبل حركة النهضة أو بالنسبة لمستقبل تيار الإسلام السياسي في تونس وفي العالمين العربي والإسلامي، فربما يكون من السابق لأوانه تحديد عمقها بدقة في المرحلة الراهنة. فالبعض يرى أن هذا الطرح من شأنه ان يثير انقسامات عميقة داخل حركة النهضة، قد لا تظهر تاثيراتها فورا أو على المدى القصير ولكنها ستظهر حتما على الأمدين المتوسط والطويل، خصوصا إذا تبين أنه طرح يتجه نحو الاقتراب من الأطروحات الغربية أوالعلمانية لما ينبغي أن تكون عليه العلاقة بين الدين والدولة، ومن ثم يتوقع، وفقا لهذا الرأي، أن تتجه حركة النهضة على المدى المتوسط أو الطويل نحو الضمور والذبول بعد أن تفقد خصوصيتها كحركة إسلامية وتعجز في الوقت نفسه عن أن تتحول إلى تيار مدني حداثي يؤمن بالديمقراطية الحقة القائمة على مبدأ المواطنة. وهناك من يعتقد، على العكس، أن التوجه الجديد للحركة مخادع ولا ينطوي على تغير جوهري في الفكر أو في الممارسة، ولكنه قد ينطلي على كثيرين، وبالتالي قد يساعد على أن تكسب الحركة مساحات سياسية أوسع، خصوصا في ظل الانقسامات الحادة داخل صفوف الأحزاب والحركات الليبرالية أو اليسارية. وعلى اي حال ففي تقديري أن ما جرى يشكل تطورا مهما، سواء على الصعيد الفكري او على الصعيد الحركي والتنظيمي، وستكون له تأثيرات تتجاوز حركة النهضة في تونس وتمتد إلى مجمل التيار الإسلامي ككل. ومن شأن إعادة تجديد الثقة في راشد الغنوشي، كزعيم لحركة النهضة في تونس، وبأغلبية كبيرة، ترجيح كفة التيار الإصلاحي داخل الحركة. وبالتالي فإن مستقبل الحركة سيتوقف إلى حد كبير على قدرة القيادة ليس فقط على ضم الصفوف داخل الحركة وإنما على سد الفجوة المحتملة بينها وبين القواعد الشعبية. وفي اعتقادي أن ما يجري داخل حركة النهضة التونسية ستكون له تأثيرات بعيدة المدى على جماعة الإخوان في مصر أيضا. وإذا حدث ذلك فسنكون إزاء مرحلة جديدة من مراحل تطور الفكر السياسي الإسلامي.