الأبراج العاجية أماكن مُتخيلة يقيم فيها الفنانون والأدباء والفلاسفة. وهي فضاءات لا يُقصد بها إجلال سلالة المفكرين، بل العكس. أي السخرية منهم واتهامهم بالانفصال عن الواقع والاشتغال في الهوامش الحياتية والعيش في رفاهية لعبة الأفكار واللغة. أو هكذا صار هذا المصطلح يوظف عند الحديث عن المثقفين. وهو مصطلح قديم ظهر على المستوى اللفظي في (أناشيد سليمان). ولكنه لم يأخذ هذه الصيغة القدحية للمبدعين إلا عند الشاعر والناقد الفرنسي سانت بوف عام 1837م. وذلك من خلال قصيدته (أفكار أغسطس). التي أراد بها القول ان العزلة هي قدر المبدع. وعلى الرغم من كل التحولات التي طرأت على مفهوم الثقافة وعلى واقع المبدع منذ ذلك الحين إلا أن تهمة الإقامة في الأبراج العاجية ما زالت توجه لكل من يفكر من خلال الفنون والآداب وكل من يسجل حضوره الحياتي عبر اللغة. وكأن الإنسان لا يحتاج إلى التحليق بالمجازات والاستعارات والخيالات. أو أن العالم لا يستقيم إلا بالانغماس في الماديات أو الوقائع اليومية المعاشة بمعنى أدق. حيث يقال لمن يتحدث بمنطق (لا تتفلسف). ويوصف من يتعامل مع يوميات الحياة بشاعرية بأنه كائن حالم. كما تتكرر عبارة (هذا لا يحدث إلا في الأفلام وليس على أرض الواقع). ويواجه من يقارب الواقع بلغة أدبية بتهمة الاستعارة من (كلام الروايات) وهكذا. وهذه العبارات التي تختزن طاقة سلبية ضد الفنون والآداب لم تتأت من فراغ. أو من ضغينة مبيّتة ضد الفنانين والأدباء. بل من واقع تجربة إنسانية واسعة وعميقة مفادها أن (الأدب لا يؤكل عيش) وأن التاريخ ليس محلا صالحا للإقامة بل الواقع هو ميدان العيش الحقيقي. وهي نظرة تتصعّد حدتها وتنخفض بمقتضى المستوى الحضاري للمجتمع. بمعنى أنها ليست قصرا على المجتمعات الموصوفة بالمتخلفة. حيث يمكن التذكير هنا بقصة رئيس الوزراء البريطاني بنيامين دزرائيلي، الذي بدأ حياته أديبا. وعندما انتبه والده إلى اهتماماته الأدبية أحرق كل كتاباته وأعاد توجيهه وتربيته صوب العمل السياسي لكي لا ينتهي شاعرا بوهيميا فقيرا. البوهيمية إذًا هي المعادل البائس لمفهوم البرج العاجي. وهذا هو ما يدفع الناس إلى رفض فكرة الفن والأدب. خصوصا أن التاريخ الأدبي والفني يحتفظ بقائمة طويلة من البؤساء، الذين عاشوا حياتهم في حالة فقر وضياع وصعلكة ومرض. وهو مآل لا يريده أي إنسان لا لنفسه ولا لأحد من أبنائه. وهو ما يعني أن البرج العاجي المتوجس منه على الدوام ليس على تلك الدرجة من الرفاهية، كما حاولوا تصويره، إلا بالنسبة لفصيل من الأدباء والفنانين البرجوازيين. أدباء صالونات الطبقة الراقية الذين يكتبون عن آلام الفقراء بأقلام مذهبة. حيث يشهد التاريخ الأدبي أيضا بوجود قائمة من الكُتّاب المتحدرين من طبقات غنية بل اقطاعية. وربما لهذا السبب قرر أنطونيو غراميشي تعديل تلك الصورة أو ضبط إيقاعها باختلاق فكرة (المثقف العضوي) كرد على ما كرسته صورة المثقف التقليدي الأديب تحديدا. حيث أراد القول إن الناس كلهم مثقفون بالضرورة، وإن كانوا لا يستطيعون أداء دورهم الثقافي. وأن المثقف كمفكر هو عضو فاعل في المجتمع وله دوره الكبير، ولا يجدر به أن ينعزل هناك في الأبراج العاجية. بمعنى أنه أراد الإجهاز على النظرية التقليدية القائلة بمسؤولية المثقف عن إنتاج الأفكار والمعاني لقاعدة جماهيرها مهمتها التلقي. وذلك للتأكيد على الدور التغييري للمثقف. وهذا المفهوم يتقاطع مع نصيحة (الشبح) لبطل (العواصف) لجبران خليل جبران. حيث أوصاه بترك الكتابة والعمل كحفار قبور لينفع الناس. نظرية غراميشي على أهميتها إلا أنها لم تنه الصراع الأزلي حول الفئة أو الطبقة أو الجماعة التي يفترض أن تؤدي الوظيفة الثقافية. كما أنها لم تقلل من حدة الاتهامات الموجهة للمقيمين في أبراجهم العاجية. فهذه وصمة تاريخية يريد فريق تثبيتها ضد خصومهم، فيما يعتبرها فريق آخر امتيازا له. حيث نبّه ت. س. اليوت مبكرا إلى خطر تفكك الطبقات الاجتماعية، وتصدي الطبقات الدنيا لمهمة إنتاج الآداب والفنون. وهذا هو ما حدث بالفعل على إيقاع أدب ما بعد الحداثة. حيث تهيأت الأرضية للطبقات الشعبية وحتى لمن يوصفون بالسوقية. وهذا هو ما يفسر الهبّة الجماهيرية لانتاج القصائد والروايات والأفلام بكثافة في جميع أنحاء العالم ومن مختلف الفئات. وعلى الرغم من حضور كل الناس تقريبًا في المشهد الثقافي إلا أن تهمة الإقامة في الأبراج العاجية ما زالت قائمة. وتتردد بصورة قدحية في المقالات والدراسات والمنابر الوعظية. ربما لأن نظرية النخبة التقليدية ما زالت قائمة. وما الجدل الدائر اليوم حول موت النخبة وبروز عصر الجماهير إلا استعادة مكرورة لجدل قديم. حيث تقول النظرية التأصيلية لفكرة الابداع إن الفن والأدب لا يمكن أن يُنتج إلا من خلال ذوات متعالية، ممتلئة، خصبة، حكيمة، مجربة، ومقيمة بالضرورة في برجها العاجي بمعزل عن اليوميات المبدّدة لطاقة التفكير. فالحكمة، حسب أرسطو، لا تخرج من دكان. وهو ما يعني أن العامل أو المهني أو المسحوق لا يفكر إلا في كيفية الحصول على قوته وليس مطاردة الأفكار وتوليد المعاني ونسج القصائد.