النزعة الحداثية ذات أثر حيوي في الفكر الإنساني تبعث على تطوير المجتمعات وتنميتها وتجددها، لكن المبالغة فيها أورثت القول برفض التراث، وهذا فيه إهدار لنتاج فكري هائل مليء بالجوانب المضيئة والقيمة العلمية والحقائق التاريخية والمنهجيات البحثية الرصينة، وإهدار هذا النتاج تضييع للجوانب المضيئة فيه وتضييع لتراكمية الفكر الإنساني وتطوراته المؤسسة لتطور الأجيال اللاحقة، وهو مأخذ جوهري منشأه المبالغة في النزعة الحداثية، كما أن تقلد الموروث وعدم الخروج عنه، منشأه المبالغة في النزعة التقليدية التي عطل بها العقل والفكر والاجتهاد وتوقف تطور الإنسان وتوقف استشراف المستقبل للأجيال القادمة، وكل ذلك محبط للتقدم مخل بسلامة الفكر وتطور الإنسان. إن النزعة الحداثية المبالغ فيها كانت بلا شك ردة فعل للنزعة التقليدية المبالغ فيها، لقد أثارتها دعاوى إهمال الماضي بكليته بل ورفضه، كما أن الانهزام الثقافي يعتبر من عوامل هذه النزعة الحداثية المبالغ فيها. لقد تسببت المبالغة في تلك النزعة في ظهور عدد من السلبيات والتشويهات على مسرح الثقافة المعاصرة، منها رفض الماضي بكل ما فيه في الفكر الإسلامي، وفي هذا تفريط في اجتهادات من مضى، وتأويل المسائل الدينية وفق الآراء المقبول منها وغير المقبول، حتى أهمل بذلك الاعتبار بمناهج البحث وصحة الاستدلال، وتسبب ذلك في عدم اكتمال نظرة الباحثين في الاطلاع على كل ما يخدم الجديد فأدى ذلك إلى الفشل في معالجته، لأن كمال معرفة الباحث بما يطرح في الحديث تكون بقراءة الماضي والنظر فيه وهذا من الممارسات البحثية المهمة لتطور المعرفة ومسائل الفكر الجديد وما يطرح فيها والنظر في مدى صحته، ثم إن معرفة تجارب الماضين في تعاملهم مع القضايا يساعد كثيرا على اكتشاف المناهج الصحيحة لتحليل المسائل المطروحة، فلا يصح اعتبار الجديد منقطعا عن التفكير التقليدي، فالجديد كسابقه يمتاز بهوية معرفية تراكمية، ولا يختلف عنه اختلافا أساسيا، وهو إحدى المراحل التكاملية للفكر التقليدي. ولذلك يتوهم بعض الناس أن البحوث التي تطرح تحت عنوان ما يسمى الحداثة والتجديد وتتبنّى نمطا من الانقطاع عن الماضي، يتوهمون أنه لم تطرح لدى الماضين أساسا نحو هذه القضايا والاشكالات، مع أن طرح آراء الماضين في المسائل الجديدة أو المباحث المتعلقة بها من شروط البحث المنهجي المستند إلى عملية المقارنة التاريخية، إلا إذا كان البحث في مسألة جديدة لم تطرح أساسا في الماضي. ومن آثار النزعة الحداثية المبالغ فيها أن كثيرا من المفكرين المعاصرين لا يبدي اهتماما بالتراث الإسلامي الزاخر، بل ربما حتى أصحاب النزعة التقليدية ايضا يقع بعضهم في هذا الإهمال، فكثير من المؤلفات للسلف لاتزال مخطوطة، ولايزال الكثير من المفكرين المؤثرين في التاريخ غير معروفين ولا يجري لهم ذكر مناسب في المؤتمرات والمحافل العلمية، وهناك العديد من المسائل الفكرية لا يزال تاريخ ظهورها وتطورها مجهولا، وهذا يعني أن المفكرين المعاصرين لا يتعاطون بطريقة منهجية بناءة مع أسلافهم، مع أن تخصيب الفكر المعاصر بحاجة إلى مثل هذه التوجهات البحثية مع الموروث الديني المتغير الذي يدور ويتحرك في الزمان والمكان، وهو الشروح والتفاسير والأقوال المتعلقة بالأحكام المتغيرة، وكل ما يتصل بحركة الإنسان في الواقع والتي يكون الأصل فيها الحرية والإباحة إلا ما ألحق منها ضررا بالنفس وبالآخر، لأن مقصد المقاصد في الاسلام هو الصلاح الإنساني. إن النزعة الحداثية لها مراتب متفاوتة، فمن مراتبها تخطئة الماضين وتسخيف آرائهم في المسائل المتجددة، ومنها السكوت عن آرائهم وإهمالها، ومنها إطلاق الأحكام العشوائية على أسس إجمالية بسيطة لجزء معين من تاريخ الفكر الإسلامي، أو بالاستناد إلى عدد محدود من نتاج السلف. والواجب أن تكون نزعة التحديث معتدلة متزنة تأخذ من الماضي الروافد المضيئة لتحسين المستقبل، وتضع الموروث في منزلته الصحيحة يتاح فيها نقده والاستفادة منه دون مبالغة تورث إغلاق الأذهان وقفل باب الاجتهاد وتطوير البحث والنظر.