في مبنى الأممالمتحدة بنيويورك، أخذ الرئيس الإيراني حسن روحاني يتحدث أمام الجمعية العامة، حسنا ذلك من شأنه، أو شأن بلاده التي لطالما تدخلت في شؤون دول أخرى. وخلف مايكروفون المنصة الأممية، ودون أن يطرف له جفن، قال روحاني بملء فمه: إن إيران مستعدة للمساعدة في القضاء على الإرهاب وتمهيد الطريق للديمقراطية في سوريا واليمن، ثم أردف حديثه بكل جرأة «إن ذلك يأتي مثلما قمنا بإرساء الديمقراطية في العراق وأفغانستان، وبالطبع لم تمر كلماته تلك التي خرجت من نفس تواقة لجعل بلاد الرافدين حديقة خلفية لمشروعه التوسعي، بما يتناقض مع عروبة العراق وحب العراقيين لخصوصية بلادهم الثقافية والحضارية، لدرجة أن (لا) جاءتهم أخيرا حتى من أتباع زعيم التيار الصدري، ومن قلب بغداد حينما أخذت الجماهير المحتشدة بالآلاف تهتف بملء حناجرها ودونما خوف، هتف آلاف العراقيين في تجمعهم بساحة الاحتفالات، بعد انسحابهم من مبنى البرلمان العراقي، مناهضين لإيران، ومنددين بتدخلاتها في الشأن العراقي، بل ووصل الهتاف الى أسماع الحرس الثوري في طهران، حينما هتفت الجماهيرضد جنراله قاسم سليماني، وتداول النشطاء على موقع التواصل الاجتماعي (تويتر)، مقطع فيديو الهتافات، المنددة ب«الاحتلال الإيراني» للعراق. وأظهر المقطع رفض المواطنين «الاحتلال السياسي للعراق»، ولتدخل قائد قوة القدس التابعة للحرس الثوري الإيراني، هتفوا «إيران برا برا.. بغداد حرة حرة». وهو ما تسبب في إرباك طهران، التي سارعت إلى إلغاء تسيير رحلات في مناسبة مهمة للايرانيين في العراق. مضت إيران بعيدا في محاولة أخذ العراق بعيدا عن محيطه وهويته العربية وإرثه وتاريخه وحضارته وتكوينه المعرفي والثقافي، وعمل الإيرانيون وما زالوا بمشروعهم التوسعي على ابتلاع العراق بشعبه وتكوينه وثقافته ودوره الممتد عبرالتاريخ، إلا أن المزاج الشعبي العراقي لا يتسق مع تلك الأطماع والرؤية الإيرانية، ويتعارض ذلك مع عروبة العراقيين وهويتهم الراسخة وانتمائهم ودورهم الحضاري عبر التاريخ، وهو ما عبر عنه كتّاب العراق ومثقفوها ومستنيروها، بل وشعبها بكل تكويناته المذهبية، دونوا ذلك عبر وسائل الإعلام المختلفة، يقول الدكتور لقاء مكي: إنه ليس مطلوبا من أحد أن يبرهن على عروبة العراق، فهذا الأمر جزء حي من بنية هذا البلد وتاريخه وثقافته والوعي القومي لأبنائه، وهو حاضر في العشائر العربية التي تسكن معظم أرجائه وتشكل الغالبية العظمى من أبنائه، ولن يكون لائقا ولا عادلا أن يعمد أحد إلى مناقشة مسلمة تتعلق بعروبة العراق الآن بعد آلاف السنين من استيطان العرب فيه، وإعماره وتأسيس أولى الحضارات الإنسانية على أرضه، لكنه من المهم العمل لرد التشكيك في هذه العروبة الذي بدأ مع بدء الاحتلال ولم ينته مع الصيغة التي تضمنتها مسودة الدستور حول هوية العراق. ولكن الموقف بات صعبا على ما يبدو، وهو ما عبر عنه الكاتب العراقي الدكتور ماجد السامرائي حين قال «القضية ليست صعبة فحسب، وإنما هناك مشروع واقعي مضاد، وصل إلى مراحل متقدمة في عزل العراق وتغريبه عن هويته. ومع ذلك ولكي لا يكون اليأس عنوان الوطنيين العراقيين، فإن قضية «عروبة العراق» تحتاج رعاية جدية من محيط العراق العربي (الخليج)، وعلى مستويات مختلفة لدعاة هذا المشروع، داعيا إلى ضرورة عقد ندوة أو مؤتمر يتبناه أحد مراكز البحوث الرئيسية في الخليج، يُدعى إليه السياسيون العراقيون بمختلف مكوناتهم المذهبية من خارج العملية السياسية، على أن يُحضر إليه بشكل جيد ومثمر. ويمضي السامرائي إلى أن جميع المحاولات الوطنية المخلصة لم تتمكن من إيقاف مخاطر التنازع الطائفي سياسيا واجتماعيا، وبد لا من أن يكون الدستور ملاذا لحل الأزمات أصبح مثيرا لها ومفجرا لدوافعها. وانحسرت الهوية العروبية للعراق مع أنها تشكل بيلوغرافيا هذا البلد. والحال كذلك فما زالت إيران تمضي في مشروعها في العراق، حيث عمل ضد رغبة العراقيين وتزداد وتيرة اطماعها التي تنزلها على ارض العراق الممتدة الكبيرة، وتعمل على تغييره واستلابه ومن ثم ابتلاعه، فأخذت أصوات العراقيين تتعالى ضدها. ويصرح الكاتب هشام عودة بأن عروبة العراق ووحدته في خطر، والخطورة هنا كما يقول متمثلة في التدخل الفارسي في الشأن الداخلي العراقي، و«الوقاحة التي وصل اليها الحكام الايرانيون حين اجازوا لانفسهم التحدث باسم مكون مذهبي عراقي، والتصريح بان جنوبالعراق جزء من الدولة الفارسية». ويمضي إلى القول: العراق الذي يتعرض لاحتلال علني من قوات الغزو الأمريكي، يتعرض في الوقت نفسه الى احتلال ايراني منظم، عمل على إعادة تشكيل الديموغرافيا العراقية، بحيث تحدث عراقيون ان اللغة الفارسية هي اللغة السائدة في بعض مدن جنوبالعراق واحيائها، ما يدل على حجم الفرس الذين يعملون على تخريب هوية العراق ومقدراته، وفي المقدمة منها الإنسان العراقي. وأخيرا.. يحكي الكاتب أحمد الملا أن الاطماع الفارسية في العراق ليست وليدة اللحظة، بل هي اطماع تاريخية لن تقف عند حدود العراق، بل تمتد لتشمل دولا عربية اخرى، وفي المقدمة منها دول الخليج. وهنا يذكر بما تطلبه ايران في العراق حين يقول «المحتل دخل العراق من اجل أن يؤسس لإمبراطوريته السابقة وجعل عاصمتها بغداد- حسب ما صرح به مسؤولون إيرانيون- حيث أخذ هذا المحتل بتغيير الكثير من المعالم في ارض العراق، مثلا تغير أسماء الشوارع العراقية إلى أسماء شخصيات إيرانية، وحتى المحافظات التي تحمل أسماء قادة ورموز عرب كان لهم في طرد المحتل الفارسي سابقا قاموا بتغيير اسمائها، وكذلك المحافظات التي تحمل أسماء المعارك التي انتصر فيها العرب على الفرس، ويؤكد ان هذا الاحتلال الفارسي لم يصمت عنه العراقيون العرب الأحرار، فقد واجهوا هذا الفكر الفارسي بالأسلوب ذاته، استمرارا لرفض الوجود الفارسي في العراق. والحال كذلك فقد أدى التدخل الايراني في العراق سواء في الساحة السياسية أو الأمنية أو الاقتصادية، أدى إلى مشاحنات طائفية واسعة بين مكونات الشعب العراقي وأدخلت البلاد في حالة من عدم الاستقرار وغياب الأمن. ويقول الأستاذ وليد الزبيدي في حديث لقناة الجزيرة: انه خلافا لما يتم تداوله في الأوساط السياسية والإعلامية من أحاديث وتحليلات تربط النفوذ الإيراني في العراق بالغزو الأمريكي واحتلاله عام 2003، يذهب الباحث الدكتور حافظ عواد العزاوي في كتابه الذي صدر بعنوان «النفوذ الإستراتيجي الإيراني في العراق وأثره على المحيط العربي والإقليمي» إلى أبعد من ذلك، مؤكدا أن العين الإيرانية على العراق تمتد إلى حقب زمنية بعيدة، وقبل أن يلج موضوع التدخل الإيراني في أحدث أطواره خلال الاحتلال الأمريكي للعراق منذ عام 2003. فقد امتدت حروب الإيرانيين على العراق إلى الزمن البابلي، حيث هاجم الفرس للمرة الأولى بلاد وادي الرافدين واحتلوا مدينة بابل عام 539 قبل الميلاد في عهد الإمبراطور الفارسي كورش، لا بد من الإشارة إلى أن محاولات الإيرانيين للسيطرة على العراق وابتلاعه لم تتوقف. وإذا اتسمت هذه الطموحات بطابعها الإمبراطوري في العصور القديمة، فإنها أخذت منهجية عقائدية لا تخفيها الزعامات الإيرانية بعد دخول الإيرانيين في الإسلام عام 637 للميلاد، وتبلور هذا الاتجاه بصورة أكثر وضوحا، بعد تسلم الحكم في إيران إسماعيل الصفوي عام 1510، ومن ثم الانتقال به إلى العراق بحكم الجوار الجغرافي، وتداخل القبائل والعشائر القريبة من الحدود بين العراقوإيران التي تمتد لمسافة 1350 كلم. ولم تتوفر فرصة للإيرانيين لبسط هيمنتهم على العراق كما حصل بعد عام 2003، فقد دفعت إيران بكل قوتها لتثبيت أركان العملية السياسية في العراق، ولم تتردد الحكومة في طهران في مباركتها لأول شكل حكومي بعد الغزو الأمريكي، والمتمثل بمجلس الحكم الانتقالي الذي شكله الأمريكي بول بريمر منتصف يوليو 2003، رغم الانتقادات الكثيرة وعلامات الاستفهام العديدة التي أثارها ذلك الدعم، بسبب عداء إيران المعلن بالمطلق للولايات المتحدة، والتي تسميها إيران منذ تولي الخميني الحكم في إيران في 1979، ب «الشيطان الأكبر» في تأكيد على معاداتها لها. وكانت السيدة مريم رجوي رئيسة المجلس الوطني للمقاومة الإيرانية وضحت في كلمة قوية لها خطورة التدخل الايراني في العراق، وحذرت منه بشدة، وقالت إن هذا التدخل أخطر من (100 قنبلة نووية).