كتب الكثير عن المرض الهولندي، وهو مصطلح اقتصادي أطلقته مجلة الإيكونيميست في مقال شهير في عام 1977م، كوصف لتدهور الصناعة الهولندية بعد اكتشاف احتياطيات غاز كبيرة في عام 1959م. والتي أدت إلى انتعاش الاقتصاد الهولندي بشكل كبير واستقطابه لاستثمارات خارجية ضخمة، مما أدى إلى ارتفاع سعر صرف العملة الهولندية وبالتالي انخفاض قدرة بضائعها التنافسية لغلاء أسعارها. وارتفعت البطالة لأن الاستثمارات في صناعة النفط والغاز تحتاج إلى رأس مال كبير، لكنها لا تستحدث وظائف كثيرة. وتوسع الاقتصاديون في دراسة هذه الحالة، وآثار الثروات الطبيعية الضخمة على الاقتصاد بصورة أعم، وما يدعى بنقمة الموارد الطبيعية (Resource Curse). ونشر في الصحافة السعودية في السنوات الأخيرة مقالات متميزة لكتاب سعوديين عن المرض الهولندي، تحلل وتستخلص بعض الدروس المهمة لبناء اقتصاد سعودي مستدام لا يعتمد بشكل كبيرعلى الموارد الطبيعية. لكن بحسب ما رأيت فلا تكاد توجد آثار لهذا المرض في الاقتصاد الهولندي، وإن كان معدل عدد الساعات التي يعملها الهولنديون تعد من بين الأقل في العالم. فهو اليوم اقتصاد متنوع ومتطور يعتمد بشكل كبير على قطاع الخدمات، الذي يشكل 74.8% من الناتج القومي الإجمالي. ولعل أوضح الأمثلة على ذلك هو ميناء روتردام، وهي ثاني أكبر مدينة هولندية من حيث عدد السكان. واسم روتردام يعني سد نهر روتي (Rotte) وهو متفرع من دلتا ثلاثة من أكبر أنهار أوروبا وهي الراين والماس وسخيلدا والتي تصب في بحر الشمال. ولنشوء أكبر مدن هولندا في هذه المنطقة، فليس من الغريب أن تكون الموانئ بهذه الأهمية في اقتصادها قديماً وحديثاً. وروتردام مدينة عصرية بكل ما تحمل الكلمة من معنى، حيث تم تدميرها من قبل ألمانيا في الحرب العالمية الثانية، بالرغم من اعلان هولندا الحياد! وتم اعادة إعمارها على طراز معماري حديث، ميزها عن غالبية مدن أوروبا ومنحها لقب مانهاتن على ضفاف الماس (Maas) في مفارقة طريفة. وعمدة روتردام الحالي هو أحمد أبو طالب وهو مسلم من أصل مغربي، وفيها مقر شركة يونيليفر الشهيرة صانعة المنتجات المنزلية المتنوعة. أصبح ميناء روتردام أكبر موانئ العالم لأربعين عاما، منذ 1962 حين تجاوز ميناء نيويورك وحتى عام 2002. أما اليوم فقد تأخر الى المرتبة 11، وأصبح أكبر موانئ العالم هو ميناء شانغهاي في الصين. إلا أن روتردام لا يزال أكبر ميناء في أوروبا، وهو ميناء ضخم بكل ما تحمل الكلمة من معنى. حيث يمتد على مسافة 42كم، ويشغل مساحة 120 كم2 جميعها من الأراضي المدفونة من البحر، وتم إنشاؤه وتوسعته عبر مراحل متعددة. ويخدم إضافة الى هولندا، عدداً من الدول الأوروبية الأخرى، وأهمها ألمانيا وبالذات مناطق وسطها وجنوبها وسويسرا. والقيمة الاقتصادية المضافة للبضائع والخدمات في الميناء ومجمعه الصناعي تقدر بحوالي 11 بليون يورو سنوياً. لا يتميز ميناء روتردام اليوم بحجمه بطبيعة الحال، وإنما بالتقنيات العالية التي تتوافر فيه، حيث تدار مرافقه بدرجة عالية من التشغيل الآلي وهو ما كان واضحاً خلال الجولة. حيث تعمل في الميناء أكبر رافعات تدار عن بعد في العالم، وسيارات النقل بدون سائق. وبعض محطاته الحالية تدار عن بعد بنسبة 85% و90%، أما محطته الجديدة (Maasvlakte 2) فسوف تكون أول محطة في العالم تدار عن بعد بالكامل من المكاتب، مما يوفر أعلى درجة من السلامة لعملياته. وتم إنشاء مركز الموانئ الذكية في جامعة إيراسمس في روتردام، ليضم أساتذة من مختلف التخصصات التي يحتاجها الميناء لدراسة ما يواجه من مشاكل والبحث في سبل تطويره، في مثال رائد للتعاون بين المؤسسات الاقتصادية والأكاديمية.