الزيارة الميمونة لخادم الحرمين الشريفين، الملك سلمان بن عبدالعزيز، لأرض الكنانة، هي زيارة استثنائية في معناها وفي نتائجها. وقد عكس استقبال الشعب المصري الشقيق لخادم الحرمين مستوى الحب الذي تكنه مصر وشعبها للقائد الكبير. فقد عاشت مصر بأسرها مهرجان فرح، لم تشهده منذ زمن بعيد. واستقبل الملك كما لم يستقبل غيره، من حيث احتضان المصريين ومؤسساتهم الدينية والعلمية والسياسية للقائد. زار الملك الأزهر الشريف، وجامعة القاهرة، والبرلمان المصري، وفي كل محطة إعلان عن إنجاز كبير، يسهم في تعزيز التعاون بين البلدين الشقيقين، وعلى كافة الأصعدة، ويساعد الأشقاء في مصر على الخروج بقوة من أزمتهم الاقتصادية لتكون مصر، بما لها من ثقل بشري وموقع استراتيجي، حيث كانت دائما، ركنا أساسيا في التضامن العربي، وتحقيق التكامل الاقتصادي بين العرب. ومع الوعي العميق بأن ما حققته هذه الزيارة، وبكل المقاييس قفزة نوعية على طريق تعضيد العلاقة الأخوية بين المملكة ومصر، باعتبار البلدين، في هذه اللحظة الفاصلة، ركني النظام العربي الرسمي الصلب، فإن الإعلان عن بناء جسر الملك سلمان، الذي يربط المملكة بمصر عبر جسر يشق البحر الأحمر من ضفته الشرقية إلى شبه جزيرة سيناء، هو الأكثر بروزا وحضورا بين جملة الاتفاقيات التي أنجزت أثناء زيارة الملك سلمان إلى أرض الكنانة. منجز إستراتيجي والحديث عن الجسر يطول ويطول، وله بداية من غير نهاية. وليس بالإمكان حصره باعتباره منجزا اقتصاديا أو حضاريا، وليس بكونه سبيلا للدفع بمسيرة التعاون بين بلدين شقيقين، ولا بقصر المسافات.. إنه أكبر من ذلك بكثير، وهو يدخل في خانة المنجزات الاستراتيجية الكبرى. لا يقل أثر هذا الانجاز عن الدور الذي اضطلع به اكتشاف طريق رأس الرجاء الصالح، ولا تشييد قناة السويس، كممر مائي يربط بين البحر الأحمر والبحر الأبيض المتوسط. فموقع الجسر هو نقطة وصل بين القارات القديمة الثلاث: آسيا وأفريقيا وأوروبا. وكان الوعي بهذه الحقيقة قديما قدم تاريخ البشرية. أدرك الاكسندر المقدوني، في فتوة حضارة الأغريق، أن من يهيمن على هذه المنطقة يستطيع العبور إلى الشرق. وحين احتل نابليون أرض مصر، وأطل على شبه جزيرة سيناء، أشار لها كأخطر منطقة في العالم، وأن من يحكمها سيتمكن من حكم الشرق. وكانت سيناء مفتاح مصر إلى الخارج، ومفتاح الخارج لغزو مصر، وعلى أرضها وطأت جيوش الفتح العربي، كما وطأت جيوش الاحتلال العثماني، ومنها انطلقت جيوش محمد علي لتغزو بلاد الشام وصولا إلى أضنة. ثلاث حروب وعلى أطراف حدود شبه الجزيرة الشمالية، أقيم نظام مصطنع، على حساب السكان الأصليين، هو الكيان الصهيوني، والهدف هو الحيلولة دون وحدة مشرق الوطن العربي مع مغربه. وكان وجود هذا الكيان ولا يزال أهم تهديد للأمن القومي العربي، ولتقدم الأمة ونموها. وفي ثلاث حروب بين مصر وهذا الكيان، دارت رحى الحرب على أرض سيناء، في العدوان الثلاثي على مصر عام 1956م، وفي حرب الأيام الستة في يونيو 1967، وفي معركة العبور عام 1973. وفي الحروب الثلاث أيضا كانت المملكة العربية السعودية حاضرة بقوة لنصرة الأشقاء، وتقديم مختلف أشكال الدعم لهم، بما يعزز صمودهم، ويسهم في دحر العدوان. وحين تذكر الظروف والتداعيات السياسية التي أدت إلى حرب النكسة، تحضر بقوة أهمية جسر الملك سلمان. فتداعيات تلك الحرب بدأت حين حشد الكيان العبري قواته على الحدود السورية مع فلسطين التاريخية، وحينها تضامنت القيادة المصرية، ودفعت بقواتها إلى سيناء في وضع هجومي، وأغلقت مضايق تيران، المضائق التي سيمر عليها جسر الملك سلمان. وإغلاق هذه المضائق يعني منع الملاحة البحرية لإسرائيل من استخدام ميناء إيلات الواقع الى الغرب من خليج العقبة، فكان أن شن العدو الصهيوني عدوانه على مصر تحت ذريعة فك الحصار عن ملاحته البحرية، وفتح مضايق تيران بالقوة. اختزال الزمن وعلى هذا الأساس، فإن بناء جسر الملك سلمان هو بالمعنى الاستراتيجي يمثل حقيقيا تحديا للمشروع الهادف إلى إبقاء شطري الوطن العربي في القارتين الآسيوية والأفريقية معزولين عن بعض. وهو بهذا المعنى، إسهام في دعم التضامن العربي، وتحقيق اللحمة بين شطري الأمة. ويربط جسر الملك سلمان المملكة العربية السعودية بأرض الكنانة، عبر جسر بطول خمسين كيلو مترا، تتشكل بداياته في الأراضي السعودية، قريبا من ميناء ضبا في الجزء الشمالي الغربي من المملكة العربية السعودية، مرورا بجزيرة تيران بالبحر الأحمر، وصولا لمدينة رأس نصراني القريبة من المنتجع السياحي الشهير، شرم الشيخ. وسوف يسهم بناء هذا الجسر في تقصير المسافات واختزال زمن الرحلة إلى مصر، إلى ما لا يتجاوز الأربعين دقيقة، هي زمن رحلة عبور جسر الملك سلمان. البعد الاقتصادي وإذا ما تجاوزنا الأبعاد الاستراتيجية لبناء هذا الجسر، التي أشرنا إليها، فإن إنشاء الجسر هو ربط عملي اقتصادي بين دول المشرق والمغرب العربي، وسيكون من شأنه المساهمة في زيادة فرص الاستثمار السعودي والخليجي، وعلى كل الأصعدة في المشروعات التنموية والاقتصادية في مصر. وبديهي القول إن من شأن وجود جسر بري بين البلدين سيسهم في مضاعفة فرص التبادل التجاري، بين مصر وشقيقاتها في الجزء الشرقي من الوطن العربي، وبشكل خاص في المملكة ودول مجلس التعاون الخليجي. لقد تطلع الأشقاء في مصر إلى مضاعفة الاستثمارات الخليجية في بلدهم، وبشكل خاص في المشاريع الصناعية. ولا شك في أن بناء الجسر سيسهم في تعزيز الاستقرار السياسي، وتحقيق الأمن وتراجع الإرهاب، والتي تمثل شروطا لازمة لإيجاد مناخ ملائم لنجاح الاستثمارات الاقتصادية. وبالنسبة للبلدان النفطية بالخليج العربي، فإن الشقيقة مصر تمثل بيئة مثالية للاستثمار المتطلع إلى الربح، نظرا لتوافر الأيدي العاملة الرخيصة، وإعادة نقل المنتج إلى الدول الخليجية أو تصديره إلى الدول الأفريقية، عبر جسر الملك سلمان. وفي هذا السياق، جرى الحديث عن تعزيز العلاقات الاقتصادية بإقامة أسواق حرة على الأراضي المصرية، وإنشاء مناطق جاذبة للاعمار على مسار الجسر، وخلق تجمعات سكانية بهذه المناطق. سياج فولاذي وعند هذه النقطة تحديدا، يتعزز الجدار السياسي والأمني للدولة المصرية. لقد كان من أهم عوامل الاختراق لشبه جزيرة سيناء في الحروب التي خاضتها مصر ضد الغزاة، أن شبه جزيرة سيناء منطقة تكاد تكون شبه فارغة من السكان. وقد سهل ذلك على الغزاة استباحتها بسهولة. فحين يقارن المرء صمود الشريط الضيق مع غزة، والذي لا يمثل مساحة تذكر بالمقارنة مع مساحة سيناء، يدرك المرء أهمية وجود الحزام البشري، وبناء المدن الكبرى، كسياج فولاذي، يحول دون تمكين العدو من تحقيق أهدافه. وعلى هذا الأساس، فإن بناء الجسر يسهم في نشوء حقائق سياسية جديدة تحمي جدار الأمن الوطني، وتتكامل مع مشروع الأمن القومي العربي الجماعي، وسوف يعزز ذلك بانتقال القوى البشرية من المغرب في صيغة عمالة وسياحة وحج وعمرة إلى المملكة، عن طريق هذا الجسر. والعكس صحيح، حيث سيتم الانتقال من الخليج والمملكة، بريا بيسر وسهولة عبر جسر الملك سلمان. والمشروع يعتبر اقتصاديا من المشاريع الناجحة، فكلفته المبدئية، كما هو متوقع، هي حوالي ثلاثة مليارات دولار، ستتكفل المملكة بتغطيتها. ويتوقع أن تستغرق فترة التنفيذ ثلاث سنوات. وتشير الدراسات الاقتصادية إلى أن كلفة هذا المشروع ستسترد من إيراداته، في مدة زمنية لا تتجاوز عشر سنوات. وتلك فترة زمنية قصيرة جدا، حين تقارن بمشاريع أخرى مماثلة، قد يصل زمن استيراد كلفتها، من خلال الإيرادات، إلى أربعين عاما. ممر للنفط وفي دراسة أعدتها شركات أمريكية، أشير إلى إمكانية تصدير النفط السعودي إلى الأسواق الأوروبية باستخدام الجسر المزمع إنشاؤه، بعبور خطوط أنابيب النفط على جسم الجسر إلى داخل سيناء بالأراضي المصرية، ومنه إلى قناة السويس ليربط بخط الأنابيب المصري (سوميد)، ومن ثم يتم تصدير البترول إلى الأسواق الأوروبية عن طريق ميناء سيدي كرير غرب الإسكندرية. وسوف يمكن ذلك من الاستغناء عن ناقلات النفط العملاقة، التي تزيد حمولتها على 150 ألف طن، والتي ليس بالمقدور عبورها قناة السويس لعمق الغاطس. وبديهي القول إن ذلك سيسهم في تشغيل آلاف العمال، وسيحد من منسوب البطالة بالنسبة للأشقاء في مصر. الحلم تحقق خلاصة القول، إن خادم الحرمين الشريفين حقق بزيارته الأخيرة للشقيقة مصر، وبالإعلان عن المباشرة في بناء الجسر الذي حمل اسمه ما حلم به أبناء البلدين والشعوب العربية، منذ أمد طويل. لقد حول بعزيمته وإرادته وأريحيته حلم السعوديين والمصريين إلى أمر واقع. وقد جاءت هذه الزيارة الميمونة في لحظة فاصلة بالتاريخ العربي، حيث يتعرض عدد من البلدان العربية للتشرذم والتفتيت، وتضيع الهويات والأوطان، ويلقي الإرهاب بكلكله على مناطق واسعة من الأرض العربية، وحيث تتضاعف التدخلات الإقليمية والدولية في شؤون منطقتنا، بشكل قل له نظير في التاريخ المعاصر. لقد تحقق حلم الراحل الكبير، الملك عبدالله بن عبدالعزيز، في بناء جسر الملك سلمان، وجاء أخوه، حادي ركب البناء والنهضة، ليتحول الأمل إلى أمر واقع.. جاءت زيارة خادم الحرمين الشريفين لترتقي بالعلاقة المصرية السعودية التي اتخذت منحى صعوديا، بالسنوات الثلاث الأخيرة، لتنقلها إلى مستوى استراتيجي فريد ومتميز في العلاقات العربية - العربية. ولا شك أن التفاهم بين القيادتين السعودية والمصرية، الذي تعزز بقوة، منذ وصول المشير عبدالفتاح السيسي لسدة الرئاسة هو نموذج ينبغي أن يحتذى به بين البلدان العربية. وهو إيذان بأن العرب قد وضعوا أقدامهم على الطريق الصحيح في عالم متلاطم، لا يعرف سوى لغة القوة، ولا يحترم إلا الأقوياء. وليس كالعلم والمعرفة وبناء النهضة والدخول بقوة في مجالات التصنيع والتنمية سبيلا إلى حيازة القوة. وقد وضع الرئيس السيسي أصابعه على الجرح، حين أشار إلى أهمية العلاقة بين مصر والسعودية في معالجة الأزمات العربية، في فلسطين واليمن وسوريا، وما تعانيه الأمة من انهيارات تهدد مستقبلها. لقد فتح الملك سلمان بما حققه في زيارته الميمونة لأرض الكنانة بوابات الأمل في تضامن عربي حقيقي، سيعلي راية العرب خفاقة، ويمكنهم من استعادة دورهم، ومكانهم اللائق بهم بين الأمم، كأمة واحدة.