إن طور الجنين الشبيه بمضغة تتحول فيه أكثر الخلايا إلى خلايا مُخَلَّقَة أعضاء وتبقى نسبة غير مُخَلَّقَة تنتشر في الأعضاء رصيدًا مُدَّخَرًا طول العمر لترميم وتعويض ما يتلف من خلايا الأعضاء، ويتطابق وصف الجنين الشبيه بمضغة بكون بنيته مُخَلَّقَة وغير مُخَلَّقَة في ذات الوقت على المستوى الخلوي مع وصف القرآن الكريم للجنين الشبيه بمضغة بكون بنيته مُخَلَّقَة وغير مُخَلَّقَة في ذات الوقت؛ بيانًا لعلم الله تعالى وتذكيرًا بعنايته بالإنسان وسبق التقدير بتأهيلات تحفظ عليه حياته: ((يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنْ كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ مِنَ الْبَعْثِ فَإِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ تُرَابٍ ثُمَّ مِنْ نُطْفَةٍ ثُمَّ مِنْ عَلَقَةٍ ثُمَّ مِنْ مُضْغَةٍ مُخَلَّقَةٍ وَغَيْرِ مُخَلَّقَةٍ لِنُبَيِّنَ لَكُمْ وَنُقِرُّ فِي الْأَرْحَامِ مَا نَشَاءُ إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى ثُمَّ نُخْرِجُكُمْ طِفْلًا ثُمَّ لِتَبْلُغُوا أَشُدَّكُمْ وَمِنْكُمْ مَنْ يُتَوَفَّى وَمِنْكُمْ مَنْ يُرَدُّ إِلَى أَرْذَلِ الْعُمُرِ لِكَيْلَا يَعْلَمَ مِنْ بَعْدِ عِلْمٍ شَيْئًا))، والآية الكريمة صريحة في تخصيص طور الجنين الشبيه بالمضغة بالوصفين (مُخَلَّقَةٍ وَغَيْرِ مُخَلَّقَةٍ) دون غيره من الأطوار؛ وهو الطور المتميز بثورة تكوين الأعضاء، وهي صريحة في وصف نفس المضغة بالوصفين معا؛ فلا يمكن التفريق بينهما، فهما وصفان للإنسان المقبل، ومطلعها خطاب للناس يذكرهم بما كانوا عليه وهم أجنة (يَا أَيُّهَا النَّاسُ).. (فَإِنَّا خَلَقْنَاكُمْ)، فلا يُمكن حمل (غَيْرِ مُخَلَّقَةٍ) على السقط وقد ولدوا وصاروا أهلاً للخطاب. قال الشنقيطي: "أَمَّا السِّقْطُ؛ فَقَدْ دَلَّتِ الْآيَةُ عَلَى أَنَّهُ غَيْرُ مُرَادٍ.. لِأَنَّ الْمُخَلَّقَةَ وَغَيْرَ الْمُخَلَّقَةِ مِنْ صِفَةِ الْمُضْغَةِ"، وقال الرازي: "كَأَنَّهُ سُبْحَانَهُ قَسَّمَ الْمُضْغَةَ إِلَى قِسْمَيْنِ: أَحَدُهُمَا تَامَّةُ الصُّوَرِ وَالْحَوَاسِّ وَالتَّخَاطِيطِ، وَثَانِيهِمَا النَّاقِصَةُ فِي هَذِهِ الْأُمُورِ.. وَهَذَا قَوْلُ قَتَادَةَ وَالضَّحَّاكِ". وقال الشيخ محمود غريب من علماء الأزهر: "مضغة مخلَّقَة تسير في مسيرة التشكل والتخلق لتصير عينا.. وتصير أُذُناً.. ومضغة غير مخلَّقَة؛ مع قدرتها على التخلق والتشكل فإنها لا تتخلق ولا تتشكل، تبقى في الجسم تمثل مخزون الاحتياط، فإذا تآكلت خلية جسدية تقوم الخلايا غير المخلَّقَة بتعويض الجسد ما تآكل منه، وكذلك لحام الكسور من العظام ونسيج الجروح، وكان القدامى من العلماء يفسرون المخلَّقَة بالتي تتشكل جنينا؛ وغير المخلَّقَة السقط... لكن هذا التفسير لا يتفق مع الآية الكريمة التي مطلعها (يَا أَيُّهَا النَّاسُ).. (فَإِنَّا خَلَقْنَاكُمْ)، فالآية خطاب لكلِّ الناس، ومعلوم أن السقط لا يُخاطب". وقال الشيخ الشعراوي رحمه الله تعالى: "المضْغة المخلَّقة هي التي يتكّون منها جوارح الإنسان، وغير المخلَّقة تظل احتياطياً لصيانة ما يتلف، فالمخلَّقة هي التي تكوّن الأعضاء، وغير المُخلَّقة هي الرصيد المختزن؛ وبه يعوَّض أيّ عطب في الأعضاء المخلَّقة". يقول الدكتور (محمد دودح): في نهاية الأسبوع الأول من الإخصاب يحدث الانغراس Implantation، ويتعلق الجنين بالبطانة الداخلية للرحم، ويتغذى على دم الأم، ويستطيل فيصبح كعلقة البرك Leech-like embryo، وتتحول الكتلة الداخلية إلى ثلاث طبقات يتكون منها لاحقا أكثر من 200 نوع من الخلايا المتخصصة لأعضاء الجنين، ومع ابتداء ضربات قلب الجنين في بداية الأسبوع الرابع من الإخصاب تنمو الجهة الظهرية بمعدل أكبر فينحني للأمام، وتبدأ أوليات الأعضاء في التشكل كبراعم فتظهر على جسمه انبعاجات وتجاعيد وأخاديد، وتبدأ الكتل الظهرية Somites في التشكل؛ فيكون حينئذ أشبه من حيث الشكل بمضغة طعام لاكتها الأسنان، وهي المرحلة التي تتطابق مع وصف الشكل في القرآن الكريم بالجنين الشبيه بمضغة Chew-like embryo؛ خلال بيان مراحل تكوين الجنين في عبارات وصفية Descriptive terms تكشف خلق الجنين الإنساني في أطوار بخلاف ما ظل حكرا للتخمينات؛ حتى قيل في بداية عصر المجهر بخلق الإنسان كاملا بهيئة قزم داخل رأس الحوين المنوي بلا أطوار: ((وَلَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسَانَ مِنْ سُلَالَةٍ مِنْ طِينٍ. ثُمَّ جَعَلْنَاهُ نُطْفَةً فِي قَرَارٍ مَكِينٍ. ثُمَّ خَلَقْنَا النُّطْفَةَ عَلَقَةً فَخَلَقْنَا الْعَلَقَةَ مُضْغَةً فَخَلَقْنَا الْمُضْغَةَ عِظَامًا فَكَسَوْنَا الْعِظَامَ لَحْمًا ثُمَّ أَنْشَأْنَاهُ خَلْقًا آخَرَ فَتَبَارَكَ اللَّهُ أَحْسَنُ الْخَالِقِينَ)) [23المؤمنون: 12-14].