من المواقف التي لا يحسد عليها المرء وتتكرر بشكل مرضي بين الفينة والأخرى، أن يستمع من صديق لخطبة طويلة لها بداية وليست لها نهاية، وفجأة يقف ذلك الصديق دون سابق إنذار بقرب نهاية خطبته التي تحتاج لمجلدات لحصر كلماتها كاملة الدسم، ليقول لك وهو متحفز لمعرفة موقفك من خطبته التي هي بداية بلا نهاية، قل لي رأيك بكلمتين: نعم أم لا يعني بلغة أكثر وضوحا موافق على ما جاء بخطبته كلمة كلمة.. وحرفا حرفا، أم لست موافقا، والغريب أنه مصر على أن يسمع رأيك. أي رأي تريده هذا..!، يا رجل جورج قرداحي في برنامجه الشهير من سيربح المليون أرحم منك، فهو يضعك أمام خيارات تحذف منها ما تشاء، علاوة على ذلك يسمح لك أن تستعين بمن شئت من أصدقائك، للإجابة عن أسئلته المليونية، وأنت تعطيني خطبة ليست لها نهاية، وتريد إجابتي بنعم أو لا، أظنك متأثرا بكلمة جورج بوش الابن من لم يكن معي فهو ضدي، إن كنت متأثرا بها أقل لك: لا أنت زعيم أقوى دولة في العالم، حتى تستأثر بهذه «الميزة»، ولا أنت العقيد الليبي الراحل معمر القذافي الذي كان يقول كل شيء بلا رقيب ولا حسيب. ومع هذا أجدك مصرا على أن تضعني في زاوية يصعب الخروج منها بسلام لي ولك، فإما أن أكون معك أو ضدك. يا صديقي لست ضدك ولا يحزنون، بل لست ضد أحد يعبر عن رأيه بصورة حضارية كائنا من كان، فالعالم يتسع للجميع ولا يضيق بأحد حتى أحشره بكلمتين عنوة، وليس بالضرورة كذلك أني أوافقك على هذه الخطبة العصماء، الذي حركت بها كل جحافل الكلمات دفعة واحدة وبسرعة تسابق بها الضوء..! لتصل بنا إلى نقطة لا نهاية لها، دون أن تسأل نفسك ولو لمرة واحدة لماذا كل هذا، فقليل الكلام يفي عن كثيره، ومع هذا سوف أبدأ معك بنقاش يوازي مساحة هذه الخطبة ما وسعني ذلك فإن أخطأت فلي أجر الاجتهاد وإن أصبت فلي أجر الاجتهاد والإصابة، كل هذا حتى لا تتهمني بأني أقتطع من كلامك ما يناسبني، فهل تسمح لي أن أتجنب كلمتي «نعم أو لا» قليلا حتى نهاية النقاش على أقل تقدير، فلا أحبذها أن تكون أمامي، لأنها قد تضعني في صدام إما معك أو مع نفسي، وكلا الخيارين فيما أعتقد أحلاهما مر، لأنهما لا يضعان مسألة الخلاف في مكانها الطبيعي لتقرب المسافة بيني وبينك، إن كنت معنيا بقرب هذه المسافة، فهل أنت مهيأ لنقاش خارج هاتين الكلمتين، أم أنت مستعد أن تأتي بخطبة تلو الأخرى في سبيل الدفاع عن هاتين الكلمتين، وكأن السلم العالمي كله متوقف عليهما..! ألم يمر عليك قول المتنبي في مديحه للرأي حينما قدمه في المرتبة على شجاعة الفارس في ساحة الوغى: الرّأيُ قَبلَ شَجاعةِ الشّجْعانِ هُوَ أوّلٌ وَهيَ المَحَلُّ الثّاني فإذا همَا اجْتَمَعَا لنَفْسٍ حُرّةٍ بَلَغَتْ مِنَ العَلْياءِ كلّ مكانِ لماذا لأن الرأي يبني الإنسان، وعكسه يشله، هل تظنني أختار الشلل على البناء؟! أيها العربي كم مرة مررت بهذا الموقف في حياتك، وأجبرت أن تختصر كل شيء بنعم أو لا؟، أو كأنك تتمثل قول الشاعر: نحن قوم لا توسط بيننا لنا الصدر دون العالمين أو القبر أظنها مرات.. ومرات.. ومرات... إلخ