منذ بداية الثورة السورية في مارس 2011، كان واضحاً أن تطور مسار الأحداث مرهون بموقف السلطة السياسية والأمنية، ومتوقف على الإجراءات التي يمكن أن تتخذها، خاصة أن الثورة السورية جاءت امتداداً لثورات بدأت في تونس وانتقلت إلى مصر ثم ليبيا وبعدها اليمن. لكن ما اتضح فيما بعد، أن الأجهزة الأمنية كانت تستعد لهذه اللحظة منذ اندلاع الشرارة الأولى في تونس وأن الاستعدادات الأمنية كانت جارية على قدم وساق، إذ نقل أحد الناشطين الذين استدعاهم الفرع الداخلي في إدارة أمن الدولة في شباط 2011 أن رئيس الفرع رد على استفهام الناشط حول حالة الصمت السائدة في الشارع السوري بقوله «الله يستر». إذاً، كان النظام السوري على مفترق طرق، إما إجراء تغييرات جذرية وعميقة في بنيته، وهو ما كان يعني بصيغة ما الانقلاب على نفسه، أو الاستمرار بنفس الطريقة السابقة وهو ما يعني حدوث أكبر مذبحة في بداية هذا القرن. المواجهة الأولى تاريخياً لم يتعرض النظام السوري لهزات عنيفة تهدد سلطته باستثناء المواجهة التي حدثت عام 1984 بين الأخوين رفعت وحافظ، وهي لم تكن مواجهة بالمعنى الدقيق للكلمة، إذ كان النظام قد خرج للتو منتصراً في صراعه مع الإخوان المسلمين، وكان سياق الصراع قد عسكر الدولة والمجتمع. وباعتبار أن النتيجة كانت القضاء على الإخوان المسلمين قضاءً مبرماً، فإن التناقضات الثانوية ضمن النظام نفسه بدأت تطفو على السطح بين تيارين الأول سمي تيار «العليات» ويضم اللواء علي دوبا (رئيس شعبة المخابرات العسكرية)– اللواء علي حيدر (قائد القوات الخاصة)– العماد علي أصلان (نائب رئيس هيئة الأركان)– العماد شفيق فياض (نائب وزير الدفاع)– العماد ابراهيم الصافي (نائب وزير الدفاع)، أما التيار الثاني فكان يمثله رفعت الأسد (قائد سرايا الدفاع) شقيق الرئيس السوري حينها حافظ الأسد. وكان جوهر الصراع هو مواجهة بين تيار فاشي طائفي (رفعت الأسد) استخدم العنف المفرط والوحشية في قمع تمرد الإخوان ويريد تعميمه كنموذج على المجتمع كله، وتيار آخر (العليات) استخدم العنف والوحشية أيضا، خاصة علي حيدر قائد الوحدات الخاصة، لكنه كان يرى أن ما يصح في مرحلة الصراع لا يناسب مرحلة الانتصار، ووصل الأمر بعلي حيدر للقول علناً أمام ضباطه وعناصره، بحسب ما نقل أحد ضباطه «نحن مع سوريا وإذا اقتضت مصلحة البلد أن يرحل الأخوين- يقصد رفعت وحافظ الأسد- فيجب أن يرحلا». وكان السبب الأساسي لتفجر الصراع حينها هو مرض الرئيس حافظ الأسد، ما دفع شقيقه رفعت للإعلان عن أحقيته في تولي السلطة حال وفاة حافظ، خاصة أنه كان قد شكل قوة عسكرية ضاربة مؤلفة من عناصر طائفية تدعى «سرايا الدفاع»، في حين وجد فيه خصومه «العليات» خطراً على مصالحهم وعلى وجودهم الشخصي. لم يمت حافظ الأسد حينها، واستيقظ من غيبوبته لينحاز للطرف الأقوى ويضحي بأخيه إرضاءً لمواليه من ممثلي طائفته وإرضاءً للمجتمع عموماً الذي عانى الأمرين من ممارسات قوات «سرايا الدفاع» الطائفية، وليرتدي لبوس الوطنية والحرص على مصالح المجتمع ومكوناته، والأهم مصالح مؤسسة السلطة ولو على حساب أخيه، لأن الأسد أدرك آنذاك أن الفاشية الطائفية التي استخدمت ضد الإخوان انتهى دورها، فهي مجرد أداة مؤقتة وعابرة، واستمرارها بشكل فظ يعني تحولها إلى عبء، ولذلك قرر أنه حان الوقت للتخلص منها. كنعان يتمرد.. ويموت بعد التخلص من أول تهديد حقيقي لبقاء النظام في سوريا (رفعت الأسد) لم تواجه السلطة السورية الحاكمة أية مشكلة في تركيبتها حتى أكتوبر عام 2005 حين أقدم اللواء غازي كنعان (وزير الداخلية) على الانتحار في مكتبه، حسب الرواية الرسمية. وكان حافظ الأسد قد أقصى كل من يمكن أن يشكل خطراً على توريث ابنه للسلطة، خاصة من العلويين، وكان آخر من أقصاهم العماد حكمت الشهابي (رئيس هيئة الأركان) واللواء علي دوبا الرجل الأمني الأول في سوريا لعقود طويلة الذي أعلن على ما يبدو في أكثر من مناسبة رفضه لمبدأ التوريث، ورأى أنه يجب ألا يحكم سوريا بعد حافظ الأسد علوي بحسب ما نقل بعض المقربين منه، ما يعني أنه كان ضد توريث باسل الأسد الابن الذي فقده حافظ الأسد بعد أن أعده جيداً لتولي مقاليد الأمور خلفا له، فكيف سيوافق على تولي بشار، الوافد إلى ميدان السياسة حديثاً؟. يعتبر انتحار وزير الداخلية اللواء غازي كنعان عام 2005 أول حالة تصدع في السلطة بحسب أحد المعارضين، فالسلطة قامت داخلياً بالانقلاب على ما سمى حينها «ربيع دمشق»، وقتلت حالة الانفتاح السياسي على المجتمع بعد أن أدت وظيفتها في التغطية على حالة انفتاح اقتصادي ورسخت الليبرالية الاقتصادية الجديدة، أما خارجيا فانتصرت السلطة لمحور ايديولوجي ديني شيعي فارسي على حساب المحور العربي ذي الغالبية السنية، وهو ما بدا واضحا في تحركات النظام السوري خاصة بعد اغتيال رفيق الحريري في لبنان. وجاء انتحار غازي كنعان علوي الطائفة رسالة لجميع العلويين بأنه غير مسموح لأحد منهم أن يتحسس ذاته خارج سيطرة الأسرة الحاكمة، أو أن يحاول التمرد والتغريد خارج السرب، فالمرجعية المطلقة في شؤون الطائفة الداخلية كما في تحالفاتها الخارجية هي وقف على آل الأسد، ولا شك أن كنعان بإدارته للملف اللبناني لمدة نحو عقدين من الزمن بدأ يكون طموحا للانتقال من دور أمني إلى دور سياسي، فهو يعرف معنى البعد العربي لسورياولبنان ويعرف أن اغتيال شخصية مثل الحريري هو حماقة سياسية سرعان ما دفع ثمنها النظام السوري، ولكن الحال انتهى به منتحرا حسب الرواية الرسمية بعد أن أدلى بشهادته أمام لجنة التحقيق الدولية، وقال ما قاله. التردد.. وإيقاظ الطائفية في الأشهر الأولى من الانتفاضة السورية أسرت زوجة ضابط علوي في الحرس الجمهوري لجارتها أن زوجها يعتقد أن على بشار الأسد أن يجد حلاً، ولو اقتضى ذلك مغادرته السلطة، في حين تحدث لواء علوي آخر لقريبه المعارض أن النظام الحاكم في دمشق («صلب» وأي تغيير سيؤدي لانكساره)، لكن لا بد من التغيير، وجاءت هذه التلميحات الخجولة بالتزامن مع تصاعد الممارسات العنيفة لصقور السلطة ضد الحراك المدني السلمي، بل إن أجهزة الأمن طلبت من أحد أعضاء مجلس الشعب العلويين في محافظة حمص المشاركة في قتل المحتجين، لكنه أجابهم «إذا أردتم أن نخرج في مسيرات تأييد فنحن جاهزون، وإذا أردتم أن ننزل إلى الشوارع ونتشاجر معهم فنحن جاهزون، أما أن نشارك في عمليات قتل فلا، هؤلاء جيراننا ونعيش بينهم منذ مئات السنين ولا نستطيع التورط في عمليات القتل، أنتم الدولة والسلطة، وتستطيعون أن تقوموا بذلك بأنفسكم، أما نحن فلن نشارك». يمكن القول إن النظام بنى إستراتيجيته في مواجهة الاحتجاجات بناء على تجربته القديمة مع الاخوان المسلمين، ولم يكن يريد إلا أسلمة الثورة ومن ثم تطييفها وتسليحها، وتحويلها إلى حركات راديكالية متطرفة، وبذلك يضمن التفاف طائفته العلوية حوله إضافة إلى الأقليات الأخرى، وهو ما نجح فيه إلى حد بعيد، لكنه واجه مشكلات من نوع آخر، أبرزها تكتل معظم السنة حول الثورة نتيجة العنف الطائفي المفرط، وطول أمد الصراع الذي لا تحتمله الطائفة العلوية الصغيرة نسبياً، وكثرة عدد القتلى في صفوفها، وهو ما برز على السطح في شكل تصدعات أصابت الأسرة الحاكمة والسلطة والطائفة. وفي هذا السياق، يمكن القول إن موقف وزير الدفاع العماد علي حبيب هو أول رد فعل ضمن مؤسسة السلطة على الاستراتيجية المتبعة في مواجهة الأزمة، إذ تجرأ العماد حبيب على إعلان موقفه الرافض لزج الجيش في الثورة السورية بحضور الأخوين بشار وماهر الأسد، مبرراً ذلك أن الجيش يمكن أن يدخل إلى منطقة متمردة مسلحة، ويقضي على التمرد لكنه لا يستطيع دخول مناطق مدنية لمواجهة مدنيين عزل، وبالتالي فإن مواجهة المظاهرات هي من مسؤولية الأمن، عندئذ انفجر ماهر الأسد غاضباً، وكال له الشتائم وأمره أن يلتزم منزله وكلف اللواء علي مملوك بمتابعة تنفيذ هذا الأمر، ليعلن الإعلام الرسمي أن وزير الدفاع أقيل من منصبه لأسباب صحية في نهاية عام 2011م. قتل آصف شوكت.. وغضب حيدر لعل أول تصدع لافت في صفوف الأسرة الحاكمة ظهر في 19 يوليو عام 2012م حين قتل العماد آصف شوكت نائب وزير الدفاع في تفجير خلية الأزمة في مبنى الأمن القومي في قلب العاصمة دمشق، إضافة إلى داوود راجحة وزير الدفاع ورئيس مكتب الأمن القومي هشام بختيار وإصابة وزير الداخلية اللواء محمد الشعار. وتسرعت يومها فصائل المعارضة بتبني تنفيذ العملية، لأن جميع المعطيات تشير أن مقتل صهر بشار الأسد جاء على خلفية صراعات وخلافات حول طريقة إدارة الأزمة، خاصة وأنه سبق لآصف شوكت أن تولى إجراء بعض المصالحات والهدن في محافظة حمص وخرج يومها الناشطون والمقاتلون بانطباعات جيدة عن طريقة تعامله، لاسيما سماحه بدخول سيارات الاسعاف والمواد الطبية. إلا أنه بعد عودته من حمص بدأت محاولات لإقصائه وتجريده من صلاحياته انتهت بمقتله. ولعل أهم ما يشير إلى ضلوع النظام في تصفيته هو ما رشح عن خلاف حاد بين بشار الأسد وشقيقته بشرى إثر العملية مباشرة اتهمت خلاله بشرى أخيها بتصفية زوجها وغادرت بعدها سوريا لتقيم مع أبنائها في دبي. وكان معظم المراقبين والمطلعين على الشأن السوري يرون أن لآصف شوكت طموحات في السلطة، إلا أنه اصطدم في البداية بباسل الأسد الذي عارض زواجه من أخته ومن ثم بماهر الأسد للسبب ذاته، لكنه استطاع الزواج منها وانتزع موافقة حافظ الأسد على هذا الزواج. ومع اندلاع الثورة في سوريا صنفه الكثيرون على أنه من الاتجاهات المعتدلة في السلطة ولو لم يصرح بذلك، كما اعتبر واحداً من أبرز البدائل المحتملة لرأس النظام، ويعتقد أن سبب تصفيته هو موقفه من التدخل الإيراني في سوريا واتساع هيمنة الايرانيين على الأجهزة الأمنية والعسكرية، واستمرار موقفه المتحفظ إزاء الحل العسكري، إضافة إلى ازدياد فرصه - مع تعمق أزمة النظام - كبديل محتمل في حالة الحلول التفاوضية، ويضاف إلى هذا أن التخلص منه لا يترتب عليه استحقاقات ضمن أسرة الأسد فهو في النهاية ليس من العائلة، كما لا تترتب عليها أي استحقاقات طائفية خاصة أن نسبه للطائفة العلوية مشكوك فيه ويقال إنه من أصول بدوية سنية. وفي نهاية عام 2012 برز تصدع آخر، في الطائفة هذه المرة، حين انتقد اللواء علي حيدر علناً بشار الأسد في مجلس عزاء في ريف جبلة، وبحسب ما نقل الحضور أن حيدر قال «هل هذه القوات الخاصة التي بنيناها خلال أربعين عاماً ؟ معقول أن يموت الشباب الذين ربيناهم وتعبنا عليهم كل هذا التعب بهذه الطريقة؟ معقول أن يموتوا مثل الذباب؟ معقول هؤلاء الشباب الذين واجهوا اسرائيل في جبل الشيخ والاخوان في الثمانينات أن يموتوا بالجملة»، فما كان من ضابط صغير إلا أن أجابه «والله يا عمي أبو ياسر، المعلم (بشار الأسد) لا ينام ليل ولا نهار من همه على الجيش»، وهنا انفجر اللواء حيدر في وجهه أمام الجميع شاتما الضابط والرئيس وطالب الضابط بأن ينقل للرئيس رأيه فيه بأنه طفل وان والده (حافظ الأسد) ارتكب كثيرا من الجرائم بحق سوريا ولكن توريث الحكم لبشار كان أسوأها، مطالبا بشار الأسد بأن يحمل حقيبته ويرحل، حيث إن أبناء الطائفة العلوية ليسوا أجراء لديه وانه لم تعد هناك أماكن بالمقابر ليدفنوا قتلاهم فيها»، وأضاف أخيرا بشكل ساخر أنه إن قرر الرئيس (بشار الأسد) الموت فهو سيتكفل شخصيا بإيجاد «حفرة» مناسبة له. تأتي أهمية هذا الموقف لعلي حيدر من علنيته أولاً ولأن حيدر ثانياً أحد أركان الحرس القديم وكان من أشد المعارضين لتوريث السلطة، ما اضطر حافظ الأسد إلى عزله وسجنه، ولأنه ثالثاً يحظى بشعبية كبيرة ضمن الطائفة العلوية وخاصة عشيرته، والأهم رابعاً أن صرخته جاءت في مرحلة بدأت فيها الطائفة تتحسس حجم الخسائر في صفوف أبنائها، صحيح أنه سبق لثلاثة من شيوخ الطائفة العلوية في حمص أن أصدروا بياناً أواخر عام 2011 أعلنوا فيه براءتهم من «الأعمال الوحشية» التي يقوم بها النظام السوري بحق المحتجين، ومؤكدين في الوقت نفسه أن نظام الأسد لم ولن يمثل طائفتهم في أي حال من الأحوال. إلا أن هؤلاء المشايخ ليسوا جزءًا من السلطة وسرعان ما خمد أو بالأصح أخمد صوتهم. مع ذلك بقي النشاط الشعبي والمدني في صفوف الطائفة العلوية مقتصراً خلال هذه الفترة على بعض الناشطين والمثقفين والفنانين، ولم يستطع هؤلاء أن يبلوروا رؤية تجمع حولها أية كتلة اجتماعية، وبقيت فعاليتها محدودة اقتصرت على المشاركة بمظاهرات صغيرة متفرقة هنا وهناك انطلقت عموماً كردة فعل على أحداث محددة، كما حدث في «دمسرخو» إثر اعتداء عناصر أمن النظام على أحد السائقين فخرجت مظاهرة حاشدة في الحي ورفعت شعار إسقاط النظام وشعارات أخرى ضد حكم الأسد وأغلقوا الأوتستراد الواصل بين اللاذقية و«كسب». وفيما بعد فر معظم هؤلاء المعارضين والناشطين خارج البلاد. وجدير بالذكر هنا أن بعض شيوخ الطائفة العلوية حاولوا في هذه الفترة تأسيس مرجعية دينية للطائفة، إلا أن بشار الأسد تدخل شخصياً في نهاية عام 2011 وأجهض المحاولة بأمر شخصي منه، بحسب ما سرب أحد المشايخ المساهمين في هذه المحاولة. تفكك الكتلة الصلبة شهد عام 2014 قلقاً متزايداً لدى النظام، ويبدو أن الخلافات وصلت إلى كتلته الصلبة حتى ضمن الأسرة الحاكمة، ويرجع بعض المعارضين ذلك إلى التقدم العسكري الذي حققته المعارضة في مناطق واسعة من الأراضي السورية، إضافة إلى أعداد القتلى في صفوف طائفته، التي تقدر إحصاءات أن عددهم تجاوز الثمانين ألفاً بل إن هناك قرى علوية لا يتجاوز عدد سكانها خمسة آلاف خلت تماماً من الشباب. وأكد أحد سكان محافظة اللاذقية أنه في تلك الفترة كان من النادر أن يصادف المرء شاباً في اللاذقية ما عدا المصابين، وأن الجميع كانوا إما على جبهات القتال أو فارين من الخدمة الإلزامية والاحتياطية، بينما باقي السكان في حالة تذمر نتيجة ارتفاع أسعار كل السلع الجنوني، وبدء انهيار سعر العملة ونقص في كل أنواع الخدمات لا سيما الكهرباء، إضافة إلى الممارسات الوحشية لقوات ما يسمى الدفاع الوطني ضد المعارضين والموالين على حد سواء. وفي هذا السياق أعلن النظام في أواخر شهر مارس 2014 مقتل هلال الأسد قائد ما يسمى جيش الدفاع الوطني في الساحل السوري مع سبعة من مرافقيه، في معارك كسب خلال اشتباكات مع قوات المعارضة، وتبين فيما بعد أن ابن عم بشار الأسد قتل في مدينة اللاذقية، لتتحول الرواية وتصبح أنه استهدف مع مجموعته بصاروخ، وبالطبع الروايتان غير مقنعتين لأي انسان بسيط في الساحل السوري، فكل من يعرف هلال الأسد يعرف أنه يستحيل أن يخرج ليخوض معركة في جبال الساحل مع فصائل مسلحة، كما أن هذه الأخيرة لا تملك التقنيات الكفيلة بتحديد موقعه لتستهدفه بصاروخ أو قذيفة وهي البعيدة عن مدينة اللاذقية عشرات الكيلومترات. إذاً ثمة مسار آخر للقصة ربما نجدها في نشاط هلال الأسد المعروف بولائه المطلق لماهر الأسد، حيث تداول الكثير من أهالي اللاذقية أنه كان يجبر عناصره ومرافقيه على تسميته رئيس دولة الساحل، بعد أن شكل في منطقة الساحل ما يشبه الدولة ضمن الدولة، حيث أصبح لديه سجن في المدينة الرياضية ولديه أجهزة أمن خاصة به ممن يسمون الشبيحة، ويقوم بفرض الإتاوات على من يشاء، ويرفض تلقي أي أوامر من أي مسؤول كان باستثناء ماهر الأسد. ويرجح بعض المطلعين على الأمور في المحافظة أن تصفيته جاءت بأمر من بشار الأسد شخصياً خاصة أن هناك بعض أقاربه من بيت مخلوف قتلوا معه، وأن السبب هو تطاولهم على الرئيس شخصياً، وهو أمر يعتبر خطاً أحمر ضمن عائلة الأسد لا يمكن التسامح معه، لذلك قرر التخلص منه مع الاحتفاظ بمكانته في العائلة كشهيد قضى في مواجهة العصابات المسلحة وليقدم لأبناء الطائفة نموذجاً عن تضحية عائلة الأسد أسوة بباقي العائلات المفجوعة بأبنائها. في حين رأى البعض الآخر أن الأمر يتعلق بحزب الله والايرانيين، فهلال الأسد مثل كل العلويين المتشددين يعرف أنه من المستحيل تشييع العلويين، وهو يعتقد أن السوريين أصحاب فضل على حزب الله، وأن ما يقوم به الحزب هو نوع من رد الجميل لا أكثر وحين أبدى استياءه من تدخل عناصر إيرانية وعناصر من حزب الله في المحافظة قتلوه، وهو ما يفسر مقتل هذا العدد من مرافقيه وأنصاره، ويدعم هؤلاء وجهة نظرهم بأن الأسد لو أراد التخلص من هلال الأسد لاستدعاه إلى دمشق مباشرة أو عن طريق أخيه ماهر وتعامل معه هناك. وفي العام ذاته، برز تصدع آخر في تيار الصقور في أسرة الأسد، إذ أقال بشار الأسد واحداً من أبرز المروجين المتشددين للحل الأمني والعسكري، ومن أبرز المقربين إليه، وهو ابن خالته العقيد حافظ مخلوف، رجل الاستخبارات القوي في جهاز أمن الدولة ورئيس الفرع أربعين، حيث غادر حافظ مخلوف إلى بيروت وبعدها قيل إنه توجه إلى بيلاروسيا. ولا يمكن أن يكون خلاف مخلوف مع الأسد يتعلق بطريقة إدارة الصراع خاصة فمخلوف بحسب شهادة لمناف طلاس هو من أفشل مساعي التهدئة في مدينة درعا (حيث بدأت الثورة السورية) عندما نزل بنفسه وأطلق النار على المتظاهرين وأردى نحو ثلاثة عشر قتيلاً منهم، ولا يمكن أن يكون سببه اقتصاديا، فخازن بيت مال الأسد هو شقيقه رامي مخلوف، لذلك يرجح بعض المقربين من عائلة مخلوف أن الأمر يتعلق بالهيمنة الايرانية على مفاصل النظام، حيث تسعى طهران إلى تفكيك الكتلة الصلبة حول بشار الأسد من أجل السيطرة عليه تماماً. خاصة أنه من المعروف أن عائلة مخلوف ذات جذور قومية سورية، وهي بالتالي مهما تطيفت في شروط الصراع إلا أنها لن تقبل بقسمة ضيزى مع الايرانيين، ولن تقبل أيضاً بمشروع التشيع في الساحل السوري، كما ان حافظ مخلوف كان بصدد تشكيل خلايا أمنية في الساحل السوري لتكون بديلاً عن فرق الشبيحة والدفاع الوطني المنفلتة من عقالها. وهذه المواقف والخلفيات وضعت حافظ مخلوف في مواجهة أسرة الأسد أولاً ومشروع التشيع الايراني الذي قطع أشواطاً في افتتاح مدارس خاصة به بلغ عددها أربع مدارس في مدينة القرداحة وريفها حتى ذلك الحين، فكان لا بد من رحيله. عموماً، لم يقتصر أمر التصدع على الدائرة الضيقة من بشار الأسد أو الكتلة الصلبة المحيطة به، وإنما تعداها إلى أقربائه من الدرجات البعيدة، وها هو محمد الأسد الملقب بشيخ الجبل يقتل في شهر مارس 2015 في قلب مدينة القرداحة بعدة طلقات نارية أصابته في رأسه وصدره وبحسب شهود عيان على الحادث أكدوا أن منفذي العملية هم شبان من القرداحة مع مجموعة أشخاص يتحدثون اللهجة اللبنانية، بل إن أحد الموجودين في مكان الحادث علق على مسمع من الجميع قائلا «هل جاؤوا لمساعدتنا أم لقتلنا»؟ ولا يعتبر محمد الأسد أكثر من شخص عادي في العائلة الحاكمة، فقد سجن مراراً بتهم مختلفة، وتزعم خلال الانتفاضة مجموعات إجرامية، لكن عائلة الأسد ترفض عموماً التطاول على أحد أفرادها من قبل عامة الناس، حتى لو كان هذا الفرد لا أهمية له، لأنها تعتبر مثل هذا التطاول انتقاصاً من هيبتها، لكن شيخ الجبل هذه المرة قتل برصاص مجهولين ولبنانيين في قلب مدينة العائلة، ودون أي ردود فعل تذكر سوى اعتباره شهيداً في مواجهة مجموعات مسلحة. ويذكر أنه قبل مقتل محمد الأسد بأسابيع نشب نزاع مسلح بينه وبين آل الخير (العائلة القوية والغنية والنافذة) إثر ملاسنة بين فراس الخير ومحمد الأسد تطور إلى عراك بالأيدي، وانتهى بإصابة محمد الأسد برصاصة في يده وإصابة فراس إصابة بليغة أدخلته العناية المشددة فاستجمع آل الأسد شبيحتهم وهجموا على منازل آل الخير واعتدوا عليها وسقط قتلى من عائلة عثمان الموالية لعائلة الخير، ما اضطر قوات الحرس الجمهوري وعناصر من حزب الله اللبناني للتدخل واعتقال الجميع، لتحل المشكلة بين العائلات قبل أن تنتقل عدواها إلى مكونات الطائفة. خاصة أن هناك عداء تاريخياً بين آل الخير وآل الأسد بحكم تفاوت المكانة الاجتماعية والدينية بين العائلتين تاريخياً. وفي نيسان عام 2015 انتشرت شائعات تفيد بمقتل منذر الأسد ابن عم الرئيس السوري، لتداهم بعدها دوريات عسكرية مكان إقامته في مشروع الزراعة في مدينة اللاذقية بأمر من بشار الأسد شخصياً لكن منذر الأسد سرعان ما توجه إلى دمشق وسلم نفسه، ليصار بعد ذلك إلى إخلاء سبيله، وذلك حسب مراقبين لقيامه باتصالات مع أبناء عمه رفعت الأسد. إلا أن الحدث الأبرز الذي أثار جزءا من الطائفة العلوية هو إقدام سليمان الأسد ابن هلال الأسد على قتل العقيد حسان الشيخ بسبب اشكال مروري بسيط على أحد الحواجز، وهو ما استدعى أن تتبرأ أسرته منه واضطر السلطة إلى اعتقاله ومحاكمته خاصة بعد موجة مظاهرات في محافظة اللاذقية تندد بممارسات آل الأسد، ولعلها المرة الأولى التي تفرض فيها الطائفة العلوية على آل الأسد اتخاذ إجراء بحق أحد أفرادها وصدر حكم بالسجن لمدة عشرين عاماً، وبعد حادثة مقتل العقيد الشيخ تعرضت زوجة هلال الأسد لإطلاق نار من قبل أخت زوجها هالة الأسد وأصيبت بأربع رصاصات، ويبدو أن الخلاف لم يكن يتعلق بمقتل الشيخ وإنما بخلاف على الميراث. من الواضح أن آل الأسد أحكموا قبضتهم على الطائفة جيداً وقد ساعدتهم ظروف الصراع التي أفرغت الطائفة من معظم شبابها واقتادتهم إلى ساحات القتال، كما أن الكتلة الصلبة في الأسرة الحاكمة تفتتت سواء بحكم الصراعات فيما بينها أو بحكم القضاء والقدر وخاصة بعد وفاة كل من أنيسة مخلوف ومحمد ناصيف، وهما أحد أركان العائلة والقرار في الدائرة الضيقة، وجاء التدخل الايراني ليزيد الأمور تعقيداً، خاصة أن العلويين بحكم عقيدتهم غير قابلين للتشيع، وهو ما خلق حالة تذمر في صفوف شبيحتهم من محاولات الضبط العَقَدي لتصرفاتهم على الطريقة الشيعية، ما أسهم في إذكاء التناقضات بينهم، في حين اضطر الأسد القابع في دمشق رهين محبسي ايران وروسيا إلى التخلي جزئياً عن عائلته وطائفته لصالح توازنات جديدة، قد يأتي يوم ويكون هو نفسه ضحيتها. لوحة علقها النظام للترويج لبشار الأسد في دمشق جنازات شبه يومية لقتلى من قوات النظام السوري