البحث في مسار ثقافي عن إمكانية تحقيق هذه المعادلة بين الشرق المسلم، والعالم الاجتماعي الغربي بوعائه الثقافي والسياسي، مهمة أكثر من كونه، بحثا أو مؤتمراً محدد الوقت، تُطرح فيه الأوراق ثم يغادره الباحثون، وتبقى المصادر أرشيفاً مهجوراً أكثر منه حراكاً ثقافياً وتواصلا معمورا. وهناك في كوبنهاجن حيث أول محطة لاستطلاع الرأي عن الفكرة، معنى مؤلم للغاية للضمير المسلم، فهنا صدرت الثقافة الوضيعة التي استهدفت مقام الأنبياء كنوع من حرية الرأي، فيما هي في الحقيقة سلوك عنيف ضد رمز لأسرة كبيرة من الشراكة الإنسانية، وإنما التطرف الشاذ هو الذي ألقى بمثل هذا السلوك في جدليات حرية الرأي، ومع ذلك كان لكوبنهاجن قصة أخرى مختلفة. وقبل أن أستطرد أود أن أُجيب على قاعدة ثبتت في بعض الوجدان الديني المعاصر، إثر فهم خاطئ لآية من كتاب الله عز وجل، والذي لا يسع مؤمن الخوض في محكمه، فضلاً عن الصد عنه، وهو فهم يُواجَه به كل من يطرح أي مسار لتفاهمات وتحالف إنساني مشترك، لدعم فضيلة أو حقوق، أو رعاية ذوي حاجة أو صناعة عقد مشترك وطني أو عالمي، بين المسلمين وجماعات المجتمع البشري المختلفة وخاصة ديانات أهل الكتاب. والآية هي قوله تعالى: ((ولن ترضى عنك اليهود ولا النصارى حتى تتبع ملتهم)). إن كثيراً من أوجه أزمة الوعي الثقافي اليوم، في شرائح من الصف الإسلامي المتدين، وخاصة بعد الانعطاف الذي واجه الخطاب الإسلامي آخر السبعينات، نحو الجدل الفقهي والحروب مع المدارس الكلامية، وإعادة البحث الشرس في توسيع دائرة الصراع السلوكي وغيره مع أي مختلف، من الأمم أو من داخل الشرق الإسلامي. قد تأثر بتفسير قطعي حدي، وعمّمه على كل السياقات في التعامل مع الخلاف البشري، فنَقَل التفاصل العقائدي الواضح والجلي في ثوابت التوحيد والرسل، الى كل العلاقات الإنسانية بين البشرية، ثم تطوّر هذا الانحراف، الى أن وصل مع جماعات العنف الوحشي الى أن المفصل الوحيد في التعامل مع الأسرة البشرية الكافرة، وهو القتال. وهو انحراف صارخ في فهم رسالة البعث السماوي، وإنشاء الخليقة التي تواترت في الكتاب والسُنة، لسنا في مقام تفصيله، لكن المهم أن هذه الآية توضع في غير موضعها، فهذه المفاصلة العقدية في الآية، جاءت باعتبار أن في علم الله عز وجل، لن يجري تحول لقبول مركز الاعتقاد الديني في المسيحية المُحرّفة واليهودية المحرفة، برسالة الإسلام، لما استقر من عمق كبير، للغلو في تحريفهم للديانة الإبراهيمية، وعليه فالرسول صلى الله عليه وسلم، يُخبَر أنه لا ينتظر الرضا منهم فلم يرضوا ولن يرضوا، وهو أمر في سياق النص القطعي ودلالته. أمّا سوى ذلك من رضا القبول بالتعامل في مصالح مشتركة، أو مسارات تَراضي فكرية وإنسانية بل وحتى دينية كما هو في أصل الموقف من الشذوذ الجنسي، وأن الأسرة في الديانات الإبراهيمية هي ما قام على عقد زواج بين ذكر وأنثى، وغير ذلك من مشتركات فهي لا تدخل في هذا البلاغ، وأما المنعطف الشامل في حياة المجتمعات ومشتركات البشرية للمصالح، والتعاون والبر بالضعفاء والإحسان، بين الناس فهذا في كتاب الله مترادف ندبه، وفي السيرة النبوية وفي التاريخ الواقعي للمسلمين. وكون أن من هذه الأمم المسيحية وغيرها، دولاً وجماعات في التاريخ القديم والجديد، هم من أدار معركة البغي وأسرفوا في التطرف ضد المسلمين، فيما لم يصنّفوا ولم يحاكمهم الإعلام، فهذا لا يُلغي وجود من يَصدق سلوكه أو مشاعره في إنصاف المسلمين، كما لا يعني ذلك ترك أي مسارِ مصلحة، متعين لجماعة من المسلمين مع جماعة مسيحية أو من أي ديانة، ترتبط معهم بعهدٍ مشترك لمصالحهم الإنسانية ومواطنتهم الجغرافية. هنا نخلص بعد هذا التوضيح، الى واقع العالم الإسلامي، وانهياراته المتعددة داخل الشرق، وهو ما أدّى لتحول جماعات ضخمة من ابنائه الى الهجرة والاستقرار بمواطنتهم الجديدة في الغرب، وهذا الأمر جزء من مسار البحث وليس كل المسار، وأصل هذا الطرح، هو البحث عن كل علاقة مصلحة وتفاهم في طريق ثالث، بين المجتمع المسلم وبين المجتمع الغربي. والمقصود بالطريق الثالث، هو الخلاص من الطريق الأول لحروب العنف التي شنتها الدول أو الجماعات على الأبرياء والمدنيين من الشعوب، فيما الطريق الثاني اعتمد على خلق حوارات وتفاهمات تمت مع أي مؤسسة رسمية عربية، أو حتى مع منظمات أهلية، كان هدفها تسخير الحالة المسلمة الى معادلات خضوع للمشروع الأمريكي والغربي، وإعادة صناعة الإسلام داخل أرضه وخارجه، لتحقيق حماية للمصالح الغربية وليس مصالح المجتمع الإنساني، بين الشرق والغرب. وللحديث والرحلة بقية نتحدث عنها في مقال قادم.