هناك بالقرب من الجسر بالطريق المؤدي الى النهر يوجد هذا المقهى والمطعم الانيق ذو الاسم الاوروبي ربما اسم فرنسي أو نمساوي "توماس" لطالما مررت من أمامه.. له سحره الخاص.. على الشارع الرئيس في هذا الحي العريق ايضا ذو الاسم الفرنسي منذ زمن الحملة الفرنسية بقيادة نابليون بونابارت - هناك بجوار ضفة النهر الشرقية أمر من أمامه منذ خمسين أو ستين عاما ولم ادخله ولا لمرة واحدة... اتفحص وجوه الاشخاص الذين يدخلونه.. عليهم مسحة راقية.. مسحة ارستقراطية مثل الحي الذي يقع فيه هذا المقهى العريق في هذا الموضع من الشارع التجاري هناك بجوار النهر. نعم مررت عليه كأنما توقف التاريخ أو تسمر في مكانه هو الآخر فأبى ألا يترك ويغادر هذا المقهى وهذا المكان الساحر الجميل، كل شيء على ما هو عليه من المباني القديمة والأسوار المصنوعة من الحديد الزخرفي المشغول بالطريقة الحرفية المتميزة القديمة التي اندثرت الآن.. كل شيء هنا هو لوحة فنية كبيرة مفتوحة على مصراعيها للاعين. اليوم هذا المساء مررت من أمام هذا المقهى.. اشتهي طعاما أحبه منذ زمن بعيد ولكنه هو الآخر تغير مع الزمن وتغيرت صنعته وقلت جودته وطعمه فربما اجد في هذا المحل هذه الاطعمة بالطريقة والوصفة الاصلية والطعم الاصلي. اشتهيت شرائح اللحم المتبل "باستورامي أو بسطرمة بالعربية" وكذلك شرائح الجبن المعتق "الجبن الايطالي أو الرومي من روما بايطاليا" وعندما اقتربت اكثر من المقهى أخذت انظر من الشارع الى داخل المحل عبر نوافذه وفاتريناته الزجاجية المزخرفة.. المكان شبه ممتلئ بالزبائن ووجوههم هي نفسها منذ أمد بعيد.. بها مسحة الرقي والارستقراطية .. والشبع.. قررت ان أدخل المقهى لاطلب هذه الشرائح اللذيذة من هذا المكان بالذات فلابد انها مازالت تحتفظ بنفس الطعم الاصلي الذي افتقدته كثيرا فقد جربت منتجا تلو الآخر دون جدوى فأنا أبحث عن الاصالة "على الاصل دور" هذا هو باب المقهى. انه موصد .. فلأجرب الباب التالي.. أرى وجوه الناس داخل المقهى.. والانوار خافتة ولكنها كافية لأقرأ وجوه الناس بدرجة جيدة.. الباب الثاني ايضا موصد بما يشبه شبكة حديدية ومتاريس حديدية ربما من مخلفات أعمال شغب واستهداف. أخيرا.. الباب الثالث ليس عليه متاريس نعم يمكن فتحه.. "الثالثة ثابتة".. الباب ثقيل ومرتفع مثل المبنى القديم الذي يقع فيه المحل.. وهأنا ادلف داخل المحل.. لحظة كلها اثارة وشوق وأمنيات .. لحظة جميلة تلخص فيها عمر بأكمله .. هذه الرائحة الزكية.. رائحة المخبوزات والفرن وقطع الجاتوه والحلوى الفرنسية والبيتزا الايطالية والمشروبات الاصلية هي نفسها.. أعادتني بالذاكرة الى الماضي عندما كنت أسير على الرصيف وأمر من أمام المقهى. يا سلام .. على يسار الداخل من الباب مباشرة توجد كنبة صغيرة تتسع لثلاثة أشخاص أو شخصين هذه الكنية مخصصة لانتظار الزبائن في حالة امتلأت كل طاولات المحل أو لانتظار تسلم الطلبات لأخذها وتناولها خارج المحل. نظام رائع وقمة في احترام الزبائن .. في مواجهة الداخلين الى المحل توجد فاترينة عرض "ثلاجة عرض" لبعض انواع "تشكيلة" الأجبان الفرنسية والايطالية والسويسرية والهولندية والدانمركية وايضا على الجانب الآخر من الثلاجة انواع اللحوم المدخنة والسجق الالماني والدانماركي والنمساوي والايطالي بأشكالها المختلفة الجميلة.. ولكني لم أجد في الثلاجة جبنتي المفضلة "الرومي" ولا شرائح اللحم المتبل "البسطرمة" اللذيذة.. على كل حال سأسأل. في المواجهة استقبلني الموظف بأدب جم واحترام شديد.. نظر الي باهتمام كأنني أنا الآخر اكتسيت بمسحة ارستقراطية ... فتحدثت اليه بصوت خفيض جدا من شدة تأثري بالموقف فأنصت الي جيدا ثم أخرج رأسه من النافذة الزجاجية ليسمعني بوضوح ومازالت ملامحه ترحب بي فسألته : هل توجد سندويتشات "شطائر"؟ فابتسم ضاحكا وهو يقول : "بالطبع" تفضل اختر .. اختر طاولة.. الطاولات مشغولة وكلها مرتفعة وحولها مقاعد مرتفعة دون ظهر "كراسي بار" إلا طاولة واحدة عادية بجوار المدخل حولها 3 كراسي ولكنها مشغولة فطلبت منه ان يحجزها لي بمجرد ان تفرغ فقال : OK "نعم" اتجهت الى آخر المحل وآخذت مقعدا مرتفعا على بار حائطي محاط بالمرايا.. جلست على المقعد وانا أحدق في كل ما هو حولي وأستعمل حواسي الخمس لتقدير الموقف حضر الجارسون "النادل" المسؤول عن منطقة جلوسي وقدم لي المنيو "لائحة الطعام" لا توجد بسطرمة ولا جبنة رومي اقرب شيء في لائحة المطعم لما جئت أبحث عنه هو شرائح صدور الديك الرومي "ديك الحبش" المدخن وجبنة الموتاريلا الايطالية ايضا مع الزبدة الدنماركية أو الهولندية حسنا.. أسعار الشرائح والبيتزا مرتفعة نوعا ما ولكن أسعار كل شيء ايضا صارت مرتفعة على الاقل هنا سأحصل على الجودة والنوعية.. على العموم انا أشعر بالشبع والوقت متأخر سأكتفي بطبق من السلاطة على الطريقة اليونانية بمكعبات الجبن الابيض وزيت الزيتون الاسباني وجبة خفيفة.. عشاء خفيف ثم انام خفيفا.. فطلبت منه سلاطة يونانية ومياها معدنية فرنسية فوارة وانتظرت الطلبات. من مقعدي يمكنني مراقبة الطريق من نافذة المقهى عبر الشارع أرى هذا الفندق الامريكي الشهير ذا النجوم السبعة "الماريوت" جي دبليو ماريوت الذي بني في جزء من حديقة قصر قديم وأبقى على مبنى القصر كتحفة معمارية نادرة بما فيه من تحف واثاث وثريات وسجاد ومفروشات وستائر .. "قصر ميشيل لطف الله" أحد اثرياء مصر في عهد ما قبل الثورة وعلى الناحية المقابلة للقصر والفندق عبر الشارع أرى هذا المحل الصغير لبيع التحف والانتيكات هذه النفائس القديمة التي زهد فيها أصحابها أو من وروثها عنهم بعدما ازيل الكثير من القصور الضخمة والفيلات الضخمة لتقام عليها مبان حديثة. تعيدني أصوات حركة السيارات وبعض المارة من أمام نافذة المحل الى الوقت الحاضر وانا مازلت أنتظر الطلبات وأستمر في مراقبة ما بداخل المحل من حولي .. بعض الأجانب وبعض المواطنين وتتعالى الأصوات والحوارات وتختلط مع أصوات الاطباق واقداح المشروبات وأصوات الضحكات، اتابع الانتظار والتأمل في ديكورات المحل.. انظر الى المرآة الكبيرة المثبتة بارتفاع الحائط بجواري في آخر المحل، واتطلع الى صورتي في المرآة. إنها واضحة .. يبدو انها مرآة ممتازة.. بلجيمي.. 6 مللي كما كانت تقول خالتي الكبيرة لأمي - رحمة الله عليهم اجمعين - عندما تتباهى بجهاز عرسها.. صورتي في المرآة.. آه وآخ لقد كسبت كثيرا من الوزن لابد من فقده.. يارب يا مسهل.. أخيرا حضرت السلطة اليونانية والمياه المعدنية الفوارة الفرنسية في زجاجتها الخضراء الانيقة.. أطلب من النادل ثلجا اضافيا فيعتذر لعدم وجود ثلج في الشتاء ويستطرد : المياه مبردة اصلا... ولكنه لا يعلم انني أريد ان اطفئ نارا قد اتقدت بين جنبي وفي حشاشة قلبي من شدة تأثري بكل هذه الذكريات.. وقدم لي كأسا خشيت من استعمالها خوفا من انتقال فيروسات الشتاء أو لاستعمالها في مشروبات أخرى سابقة فأخذت انهل من الزجاجة مباشرة.. لذيذة دائما لذيذة والسلطة.. السلطة مقدمة بطريقة فنية غاية في الاناقة "الشياكة" طعمها رائع، بل اكثر من رائع كأنني لم آكل سلطة من قبل. الجارسونات وعمال المحل وعمال الفرن وشيف البيتزا ورواد المحل كلهم ملامحهم مرحبة وذكية مدهش.. هذا هو سر هذا المحل فقد ترك المعلم "توماس" جزءا من روحه في المحل قبل ان يرحل كما ترك اسمه على الباب وعلى اكياس المحارم الورقية، كتب ان المحل قد تأسس عام 1922 أي منذ 94 عاما تقريبا مائة عام أي "قرن من الزمان" ونفس ديكوراته وابوابه ومراياه ومقاعده وطاولاته كلها على حالتها.. هذه هي العراقة والاصالة .. هم يعملون 24 ساعة يوميا دون توقف ودون اغلاق ولا أوقات راحة، فقط يتبدل طاقم العمل كل 8 ساعات، كل شيء جميل حتى صوت رنة ضحكات هذه الزبونة التي تجلس على طاولة في الطرف الآخر من المحل... يخرج زبائن ويدخل زبائن آخرون وأظل في مقعدي وانا انظر من حين لآخر الى صورتي في المرآة وأراقب الصورة اكثر واكثر قبل ان اتأهب للخروج من المحل، ثم أمعن النظر في صورتي بالمرآة واتساءل بيني وبين نفسي في خاطري وقد امتلأت عيناي بالدموع، وأنا أسأل نفسي: هل ستظل صورتي ايضا لمدة مائة عام آخر بعد ان انصرف من المحل أو بعد ان أرحل بالضبط كما بقيت روح صديقي "توماس"..؟.