استكمالاً لما تم تناوله في المقالات السابق حول وسائل الإثبات، وما تم توضيحه من أن وجود الحق لا يكفي للمطالبة به، وإنما يجب على صاحب هذا الحق إثباته حتى يقضى له بهذا الحق، وقد تم الحديث عن الإقرار والشهادة واليمين والكتابة، ولذلك سوف يقتصر الحديث في هذا المقال على القرائن والمعاينة والخبرة. القرائن القرينة هي الأمارة القوية التي يستدل بها القاضي على وقوع أمر خفي من الأوصاف الدالة على ثبوت الواقعة القضائية المؤثرة في الحكم أو نفيها، وتنقسم إلى عدة أقسام: 1- القرينة النصية، وهي التي وردت في الكتاب والسنة، فجعلها الشرع في نصوصه من الكتاب والسنة أمارة على شيء معين. 2- القرينة الفقهية، وهي القرائن التي قررها الفقهاء واستنبطوها من الأصول العامة للشريعة وجعلوها أدلة على أمور أخرى ومستنداً في ثبوت الوقائع عند التداعي، كحيازة المنقول قرينة بسيطة على ملكية الحائز له عند المنازعة في الملكية ويجوز للخصم إثبات العكس. 3- القرينة القضائية، وهي ما يوجد في القضية محل النظر من وقائع من أقوال الخصوم ودفوعهم وما يقيمونه من أدلة على وقائع يستنبط منها القاضي ثبوت الحق المدعي به أو نفيه، وتختص بأنها جزئيَة تقتصر على القضية المحكوم فيها فقط، ويشترط لها وجود واقعة ثابتة يختارها القاضي من الوقائع التي لها اتصال بموضوع الدعوي، وتعتمد حجيتها على قوة دلالتها، فإن كانت قوية أو أضيف إليها ما يرقي بها إلى درجة الظن الغالب فإنه يُعمل بها، وإن كانت مترددة أو ضعيفة أو كاذبة فلا يُعمل بها، وكل ذلك يكشفه القاضي بذكائه وحصافته. ويلاحظ أنه يشترط لاستنباط القرائن القضائية أن يشهد الشرع للمعنى المستنبط، وأن يكون المعنى المستنبط مؤثراً في ثبوت الواقعة المتنازع فيها، وألا يعارض المعنى المستنبط ما هو أقوى منه من العلل والمعاني التي تؤدي إلى نفي الواقعة، وأن يكون الاستنباط كافياً، ومتسلسلاً، ومبنياً على واقعة ثابتة. ويحق للخصم إثبات عكس القرينة أو ما يخالفها وحينئذ تفقد القرينة قيمتها في الإثبات. وقد اتفق الفقهاء على مشروعية الإثبات بالقرائن على ثبوت الحقوق المالية بها سواء كانت في المعاملات أو في الأحوال الشخصية واختلفوا في الحقوق غير المالية من الحدود والقصاص. ويشترط للعمل بالقرائن عدم وجود بينة أخرى في إثبات الحق المتنازع فيه. المعاينة المعاينة هي أن يشاهد القاضي بنفسه أو بواسطة أمينه محل النزاع بين المتخاصمين لمعرفة حقيقة الأمر فيه، وتشترك المعاينة والخبرة في دخولهما تحت الإثبات المباشر، وكذلك في أن حقيقة الخبرة أنها نوع من أنواع المعاينة ولهذا يطلق علىها أحياناً "المعاينة الفنية"، وتختلف المعاينة عن الخبرة في عدة أمور، منها أن المعاينة تتم من القاضي أو نائبه (الشخص الذي يخوله القاضي للقيام بالمعاينة وذلك مثل هيئة النظر)، وليس الأمر كذلك في الخبرة، كما أن المعاينة تستدعي حضور الخصوم والخبرة لا تستدعي حضورهم، فضلاً على أن المعاينة أقوى دليلاً من الخبرة؛ لاستنادها على الرؤية والمشاهدة وهي أمر يقيني، كما تختلف المعاينة عن الخبرة في اعتبار محل القضاء. ولا تتم المعاينة إلا في الأموال والأعيان منقولة كانت أو ثابتة، وذلك إما عن طريق جلب المتنازع فيه إلى المحكمة إن كان ذلك ممكناً، أو الانتقال إلى موضع الشيء لمعاينته بواسطة القاضي أو ندب أحد أعضاء المحكمة لذلك. المعاينة تكون إما بطلب القاضي أو بطلب أحد الخصوم، وقد تكون أثناء نظر الدعوى، وقد تكون هي دعوى لإثبات حالة يحتمل أن تصبح محل نزاع أمام القضاء كما نصت على ذلك المادة (206/1) من اللائحة التنفيذية لنظام المرافعات الشرعية، وللقاضي رفض طلب المعاينة مقروناً بأسبابه مع تدوين ذلك في ضبط القضية. وقد تضمن نظام المرافعات الشرعية العديد من الضوابط الخاصة بالمعاينة، حيث أكد على جواز الاستخلاف في المعاينة وجواز التحفظ على الشيء موضوع المعاينة إلى حين صدور الحكم أو إلى أي وقت آخر، وجواز أن يكون للمحكمة أو القاضي المنتدب أو المستخلف للمعاينة تعيين خبير أو أكثر للاستعانة به في المعاينة، ولكن شريطة أن يراعى عند تعيين الخبير أن يكون مسلماً بالغاً عاقلاً عدلاً تتوافر فيه الفراسة وقوة الملاحظة وذا علم وتجربة واختصاص. ويشترط لقبول دعوى المعاينة لإثبات معالم واقعة أن يتقدم صاحب المصلحة بطلب المعاينة بصحيفة تقدم للمحكمة المختصة، وأن تتوافر صفة الاستعجال في الدعوى المرفوعة إذا كان القصد من الإجراء هو منع ضرر متوقع قريباً قد يتعذر تلافيه مستقبلاً، وأن تكون هناك احتمالية لأن تصبح تلك الوقائع أو الأوصاف أسباباً لمنازعة أمام القضاء، وألا يترتب على الحكم الصادر بهذا الإجراء أي مساس بأصل الحق. الخبرة المقصود بالخبرة هو إخبار أهل الاختصاص بحقيقة أمر محل نزاع، ولا سبيل إلى ذلك إلا عن طريقهم بطلب من القاضي أو الخصوم، ويصنف أهل الخبرة إلى صنفين، متقدم ومستجد: 1- المتقدم هو ما ذكره الفقهاء قديماً، ومنهم الطبيب والمترجم ومقدر الشجاج. 2- المستجد هو ما لم يذكره الفقهاء قديماً، وإنما وجد في هذا العصر، ومنهم خبراء الأدلة الجنائية والمهندسون ونحو ذلك. وقد اتفق الفقهاء على وجوب الأخذ بقول أهل الخبرة فيما يختصون بمعرفته، كما يشترط فيمن يكون من أهل الخبرة الإسلام والتكليف والعدالة والعدد والحرية وأن يكون منصباً من القاضي وأن يكون ماهراً مجيداً لما هو من اختصاصه وأن يكون خالياً من الغرض، وقد أضاف نظام المرافعات الشرعية بالمادة (128) على الشروط العامة السابقة أن يكون الخبير حسن السيرة والسلوك وأن يكون حاصلاً على ترخيص بمزاولة مهنته من الجهة المختصة، وأن يكون ترخيصه ساري المفعول، كما نصت ذات المادة على أن تحدد المحكمة المبلغ الذي يودع لحساب مصروفات الخبير وأتعابه والخصم المكلف بإيداع الأتعاب والأجل المحدد لذلك، والمعمول به أن يكون مبلغ أتعاب الخبير مناصفة بين الخصوم، فإذا رفض الخصم إيداع المبلغ المكلف بإيداعه جاز للخصم الآخر أن يقوم بإيداع هذا المبلغ دون إخلال بحقه إذا حكم له في الرجوع على خصمه، فإذا اتفق الخصوم على خبير معين فعلى المحكمة أن تقر اتفاقهم إلا إذا رأت خلاف ذلك فعلىها تعيين خبير آخر مع بيان سبب رفض الخبير الذي اتفق علىه الطرفان، وهذا مما نص علىه نظام المرافعات الشرعية بمادته (130)، كما نصت اللائحة التنفيذية كذلك لذات النظام بالمادة (130/2) على أن يكون قرار المحكمة في اختيار الخبير غير قابل للاعتراض. وفي نهاية هذا المقال، نكون قد أكملنا الحديث عن كافة وسائل الإثبات أمام القضاء السعودي من خلال هذا المقال والمقالات السابقة، ونأمل أن نكون قد قدمنا مختصرا عن بعض وسائل الإثبات في النظام السعودي.