على هامش مؤتمر ميونخ الذي عقد مؤخرا في برلين عمدت موسكو الى تصعيد خطابها حيال الازمة السورية، وقالت : إن الأمور تتجه بقوة ناحية الحرب الباردة، إلا انها ايضا قبلت وقف إطلاق النار، غير انها قالت : إن نسبة تطبيق هذا القرار لن تصل الى 49%، ورغم ان تصريحات رئيس الوزراء ديمتري مدفيديف كانت ملتهبة جدا، إلا ان اللقاء في ميونخ هذه المرة لم يتوقف كثيرا عند الازمة السورية، بقدر ما كان الامريكان والدول الغربية معنيين باوكرانيا والتهديد الروسي للامن الغربي، فيما كان الرئيس الروسي بوتين يطمح الى التعامل مع الغرب بنظام الصفقة الشاملة، فهو باحث أولا عن رفع الحصار الاقتصادي، والتفاهم بالمقايضة بين الازمتين الاوكرانية والسورية، اعتقادا منه أن الغرب قد يرضى بهذه المعادلة. ولان الغرب لا يثق في الرئيس الروسي بوتين، ويعتقد جازما ان المحرك الاقتصادي يشكل لب القرار الروسي فيما يتعلق بالازمة السورية خاصة في ظل الانعكاسات السلبية للحصار الاقتصادي على المواطن الروسي، وارتفاع كلفة العمليات العسكرية التي تتضاعف يوما بعد يوم، والوضع الداخلي القلق، حيث إن مزاج الشعب الروسي ضد التدخل العسكري، وتدمير المدن، وضاعف ذلك استقبال تركيا آلاف اللاجئين السوريين، ما انعكس سلبا على المزاج العام للرأي العام الروسي. ولم تتوقف المحاولات الروسية على طلب عقد الصفقات السياسية، فقد كان الموضوع النفطي من العوامل المؤثرة في الاقتصاد الروسي، ولا تملك روسيا أو دولة أخرى - عدا السعودية - امكانية التصرف في هذا المجال، حيث سعت روسيا الى طرق الابواب السعودية، على أكثر من صعيد ومبادرة ومحاولة ضغط وابتزاز، وكانت محاولتها الآخيرة دعوة مجلس الامن لاجتماع طارئ لمناقشة الازمة اليمنية، واحدة من تلك المحاولات، خاصة بعدما اتضح للجميع أن الاطراف اليمنية المتصارعة بدأت تتهاوى على أبواب صنعاء، وان دخولها لن يطول كثيرا. ولعل كلا من روسيا وايران متخوف جدا من حسم الأمور في اليمن، قبل بدء التدخل البري في سوريا، إذ إن النجاح في اليمن، سيؤدي الى نجاحات في سوريا ايضا. الاقتصاد الروسي يمر بحالة كبيرة من الضيق، والهروب من المشكلات الداخلية لن يؤدي الى تحقيق نتائج ملموسة، بقدر ما يضاعف المشكلة الداخلية، حتى مع مبالغة موسكو بالخطر الذي تشكله التنظيمات الجهادية على الأمن القومي الروسي. فتقارير البنك المركزي الروسي توضح أن روسيا تواجه أزمة حادة هذا العام 2016 حال ظلت اسعار النفط تتهاوى الى مستويات يصبح فيها النفط الروسي عديم الجدوى، حيث يستمر الركود في الاقتصاد الروسي لعامين متتاليين، لدولة تعتمد في دخلها على 60% من عائدات النفط، ويليها مبيعات السلاح، وحالة الانكماش الاقتصادي التي وصلت الى 3.7%، وهي اوضاع لا يمكن تجاوزها تحت أي اعتبار كان، وان رفع سقف الوطنية الروسية لن يجدي نفعا، لان الانتماء الوطني والحريات تتراجع في ظل التراجع الاقتصادي. إن روسيا تعيش أزمة اقتصادية حادة وميزانية العام الجديد اظهرت تراجع بقيمة 70 مليار دولار، فيما تؤكد القراءات الاقتصادية أن هذا الرقم غير دقيق إطلاقا وترجح وجود تراجع يصل الى 130 مليار دولار. وقد يستمر حال وصول أسعار النفط الى ما دون 25 دولارا الى 150 مليار دولار، فلن تسجل ميزانية الدولة الروسية توازنا الا اذا وصل سعر برميل النفط الى ما بين 85-105 دولارات، وهذا يعني ان الازمة المتراكمة في تصاعد، وهذا بدوره سيضغط على القرار السياسي الروسي لخفض توقعاته السياسية. ورغم دعوة الرئيس الروسي بوتين الاستعداد لمختلف السيناريوهات، بسبب تراجع أسعار النفط، رفع فاتورة الانفاق على العمليات العسكرية في سوريا خلال الفترة من 30/9/2015 والفترة 30/12/2015 ما بين 150 و200 مليون دولار، فيما بلغت كلفة الغارات الجوية اليومية هذه الفترة 4 ملايين دولار يوميا، وتضاعفت في الاشهر الأولى من العام الجاري لتصل الى 6 ملايين دولار، وكلفة ما تلقيه الطائرات الحربية من قنابل بلغ يوميا 750 الف دولار. ووصل حجم النفقات اللوجستية اليومية الى 2000 عسكري روسي في سوريا بنحو 500 الف دولار، فيما تضاعفت كُلف الانفاق في قاعدة طرطوس وبحر قزوين لتصل الى 250 الف دولار، والخدمات اللوجستية والاتصالات واعمال التنسيق وصلت الى 260 الف دولار، حسب تقديرات مؤسسات دولية منها مجموعة (آي اتش اس جاينز). وعلى ضوء ما تقدم فان تكلفة الجهد الحربي للنشاطات البحرية والجوية والبرية سيصل اجماليها خلال عام الى 2.5 مليار دولار، ناهيك عن الخسائر المادية والبشرية المتوقعة، ليصل الرقم الى 3 مليارات دولار سنويا، ناهيك عن التوابع الاقتصادية للازمة السياسية والاقتصادية الروسية على المستوى الخارجي، فقطع العلاقات الاقتصادية مع تركيا أضر - على المدى الطويل - الاقتصاد الروسي، فيما بدأت تركيا تتكيف مع المتغيرات وتجد بدائل أخرى غير الأسواق الروسية، اضافة الى انخفاض السيولة وتجميد العديد من المشاريع الداخلية، والتراجع عن الاستثمارات الأجنبية التي كانت موسكو تتأمل خلالها تحريك الاقتصاد الروسي. هل تصمد روسيا طويلا؟ كل المؤشرات لا تشير الى ذلك، حيث من المتوقع ان تلجأ روسيا الى ادخال تعديلات على الموازنة الروسية، وتقوم بالسحب الكبير من الاحتياطي البالغ 346 مليار دولار، ناهيك عن هجرة الاموال وافلاس بعض البنوك الروسية، وضعف امكانات حصول موسكو على قروض خارجية بسبب الحصار الاقتصادي، وسينعكس ذلك على قيمة الروبل ويترفع معه معدل التضخم. ويرى خبراء روس أن المشكلات الاقتصادية الروسية متراكمة وانه لو ارتفعت أسعار النفط، فان الارتفاع لن يصل الى المستوى المطلوب خلال عام، فحتى يصل الى 85 دولارا فهو بحاجة الى عام ونصف، وهذا يعني تآكلا في الاحتياطي، ناهيك عن احتمالات حدوث هزات في أسعار البترول تبقيه عند حدود لا تتجاوز المأمول فيه، وايضا فان المعلومات تشير الى عدم وجود اقبال دولي على شراء السلاح الروسي، رغم الاستعراضات التي قدمتها روسيا في الاجواء الروسية وحملات الدعاية الاعلامية، وهو ما يهدد الصناعات العسكرية، ويدفع بمزيد من الضغوط على الرئاسة الروسية مستقبلا، الأمر الذي سيؤدي الى ارتفاع حاد بمستويات المعيشة ما يؤدي الى حدوث اتجاجات وحدوث تدهور في سعر صرف الروبل. ضمن هذه المعطيات الرقمية والاحصائية، فان السلوك السياسي الروسي سيتأثر وتصبح موسكو ليست قادرة على مواصلة نفس السلوك السياسي وتقديم تنازلات متوقعة، وهذا ما شهدناه في مؤتمر ميونخ مؤخرا، حيث كان الروس معنيين أولا، برفع الحصار الاقتصادي، والتفاهم مع المملكة على اسعار النفط، وكانت من ثمار هذا اللقاء، وقف اطلاق النار، والمواقفة على التنسيق مع امريكا في محاربة الارهاب، ولقاء الدوحة لوزراء النفط، وكل تلك المعطيات ليست منفصلة عن الازمة الروسية الداخلية والخارجية ايضا حيث بدأت موسكو تفقد اسواقها التقليدية، وتفقد الأصدقاء نتيجة التدخل العسكري في سوريا، وسياسات الأرض المحروقة التي تتبعها ضد المدنيين في حلب، وانكشاف أهدافها بعد اعتراضها على مواقف المملكة في مواجهة داعش. كما ان روسيا التي تعيش فيها المافيات حالة من الكمون المؤقت، وارتفاع معدلات الفقر ليصل الى 15% ، وانتشار الجريمة، وخروج القوة الحية الروسية الى الاسواق الخارجية، وتهريب العملات والذهب الى الخارج، ما دفع هيرمان غريف رئيس مصرف "سبير" -أكبر المصارف الروسية - لدق ناقوس الخطر بشأن إمكانية تحول روسيا إلى دولة فاشلة اقتصاديا مع اقتراب عصر النفط من نهايته.، وضمن هذا الاتجاه فان الاقتصاد الروسي لن يتحمل المزيد من الغرق في الوحل السوري، خاصة اذا فقدت الاطراف اي أمل بالحل السياسي، حيث أكدت ريفا بهالا، نائب رئيس شركة ستراتفورد المتخصصة بالاستخبارات الجيوسياسية في أمريكا. إن موسكو لن تتحمل نفقات التدخل والعمليات العسكرية للقوات الروسية في سوريا لأكثر من أربعة أشهر، وهذا يعني أن موسكو إما ان تساهم في البحث عن حلول سياسية أو ان تنتظر افغانستان أخرى لن تتوقف عند الحدود السورية هذه المرة.