تشكل النظام العربي الحديث إثر نهاية الحرب العالمية الثانية. وجاء تشكيله متماهيا مع رغبة النخب السياسية العربية، وبخاصة في العراق وبلاد الشام، التي قادت الكفاح ضد الوجود العثماني، فقد بشرت تلك النخب بقيام نوع من الاتحاد بين الأقطار العربية، منذ حركة اليقظة العربية، التي بدأت في أخذ مكانها منذ النصف الثاني من القرن التاسع عشر. والهدف كان دائما تعضيد التطلعات القومية في التنمية، والعمل على تحقيق استقلال البلدان التي ما زالت آنذاك تعيش تحت وطأة الاحتلال الأجنبي. في تلك الظروف، وقبيل انتهاء الحرب العالمية الثانية بزمن قصير، جرت اتصالات ومشاورات بين الحكومة البريطانية وبعض القيادات العربية للوصول إلى حل وسط، يؤمن، التشاور والتنسيق والتعاون بين الأنظمة العربية التي تمكنت من حيازة استقلالها السياسي. وفي هذا الاتجاه، تم اقتراح تشكيل تكتل عربي، يمثل الحكومات العربية المستقلة أو شبه المستقلة، انتهت بعد مداولات ومشاورات ومباحثات بقيام جامعة الدول العربية. كانت الخطوة العملية في تأسيس الجامعة قد بدأت في أواخر أيام الحرب الكونية الثانية، عندما تبنى ثلاثة من الزعماء السياسيين العرب، هم مصطفى النحاس باشا، زعيم حزب الوفد ورئيس وزراء مصر، وجميل مردم بيك رئيس الحكومة السورية، وبشار الخوري الزعيم الوطني اللبناني وأول رئيس لجمهورية لبنان بعد مشاورات مكثفة مع مسؤولين بريطانيين، وبعد أن ضمنوا تأييد الحكومة البريطانية، لفكرة قيام جامعة للدول العربية وعرضوا هذه الفكرة على الملوك والرؤساء العرب الذين استحسنوها وأيدوها. وإثر تكشف نتائج الحرب العالمية الثانية واقتراب الحلفاء من تحقيق النصر على دول المحور، تهيأت الأجواء لعقد مؤتمر قمة عربي بالإسكندرية لدراسة تشكيل هذه المنظمة. وخلال اجتماعات المؤتمر اتضح تباين وجهات النظر بين المجتمعين، حيث كان السوريون متحمسين لتأسيس دولة تضم عددا من الأقطار العربية، بضمنها سورياولبنان والأردن وفلسطين تدعى بسوريا الكبرى، بينما كان هناك اتجاه آخر، يطالب بتحقيق وحدة الهلال الخصيب. أما الاتجاه الغالب قد فضل أن يمارس العمل العربي المشترك من خلال تأسيس جامعة الدول العربية باعتبارها حاضنة للتنسيق وتحقيق التعاون والعمل المشترك بين الأقطار المنضوية دون أن تفقد أي منها سيادتها واستقلالها. انطلاقا من هذا التصور، نص بروتوكول الإسكندرية الذي جرى توقيعه في 7 أكتوبر عام 1945على إنشاء جامعة للدول العربية وأن تعتمد قراراتها على قاعدة الإجماع في التصويت، وفي حالة تعذر ذلك، تكون تلك القرارات ملزمة لمن يقبلها. كما نص البروتوكول على عدم جواز اللجوء للقوة لفض المنازعات التي تنشأ بين عضوين أو أكثر من أعضاء الجامعة، وأعطى المجلس الحق، لأعضاء الجامعة وأمانتها العامة، في التوسط في أي خلاف أو حرب تقع بين الدول الأعضاء أو بينها وبين أي دولة أخرى خارج الجامعة. وألحق بالبروتوكول ملحقان، أحدهما قرار خاص باستقلال لبنان وسيادته بحدوده القائمة، والآخر نص على تأييد الحق العربي في فلسطين، وعلى ضرورة مساهمة الحكومات والشعوب العربية في صندوق الأمة العربية، لإنقاذ أراضي العرب في فلسطين. وفي مارس عام 1945، أعلن رسميا عن تشكيل جامعة الدول العربية، التي نص ميثاقها على أنها منظمة عربية ودولية، طبقا لبروتوكول الإسكندرية، واستنادا على الميثاق، الذي وقعه سبعة من الملوك والرؤساء العرب في القاهرة في 22 مارس 1945. واقتصر التوقيع في هذا البروتوكول على الدول العربية المستقلة، باعتبارها حكومات مؤسسة لهذه المنظمة، والتي لم تتعد حتى ذلك الوقت السبعة أقطار، هي مصر والسعودية والعراقوسورياولبنان واليمن والأردن. وقد انضمت إلى الجامعة بقية الأقطار العربية الأخرى بعد أن تمكنت من إنجاز استقلالها السياسي. اللافت أن أعرافا غير مكتوبة سادت العلاقات العربية- العربية، وبضمنها أعراف تخص هيكلية وطريقة عمل جامعة الدول العربية. فمع أنه لا يوجد نص رسمي في الميثاق أو اللوائح التابعة للجامعة يشير إلى أن أمينها العام ينبغي أن يكون مصريا، لكن مصر ظلت على الدوام تحتفظ بمنصب الأمين العام لها، منذ العهد الملكي حتى يومنا هذا. الفترة الوحيدة التي جرى فيها تعيين أمين عام من خارج مصر كانت خلال فترة القطيعة العربية مع نظام الرئيس أنور السادات، إثر توقيعه معاهدة كامب ديفيد مع الكيان الصهيوني، حيث عين للأمانة العامة السيد الشاذلي القليبي، من القطر التونسي الذي أصبحت بلاده مقرا مؤقتا للجامعة. العرف الآخر الذي جرى الأخذ به هو الإقرار بعدم جواز التدخل في الشؤون الداخلية، واحترام سيادة كل قطر من قبل الأقطار العربية الأخرى. لكن في كل الأحوال، كانت هناك استثناءات وخروقات سواء لما جرى الاتفاق عليه بموجب الميثاق، أو ما تم التوافق عليه عرفيا. عكست جامعة الدول العربية، في تشكيلها وهياكلهاً لواقع النظام العربي الرسمي وطبيعة العلاقات بين الأقطار العربية، وكانت الخلافات بين قطرين رئيسيين من الأقطار العربية كافية لأن تشل عمل الجامعة وتعطل حركتها. وفي هذا الصدد فإن الخروقات والأزمات كبيرة وكثيرة، يستعصي إحصاؤها. كانت الأحلاف والعلاقات الحميمة موسمية، سرعان ما تنهار إثر تعرضها للرياح.. ومن سوء طالع هذه الأمة أن الرياح والأعاصير التي تواجهها كانت ولا تزال كثيرة، تأخذ الأحداث مكانها بسرعة مذهلة. ومع كل حدث هناك موقف عربي رسمي وشعبي مؤيد أو مناوئ، وكان الحدث الواحد بمفرده يشكل محطة رئيسية في صياغة العلاقات السياسية والاقتصادية بين هذا النظام أو ذاك، والمحطات كثر!. وعند كل محطة من هذه المحطات، تنشأ علاقة حميمة جديدة بين أقطار عربية، وأخرى تنهار. وكانت التحالفات تقوم وتسقط بين ليلة وضحاها. ففي الخمسينيات، مزقت الحرب الباردة العلاقات بين الدول العربية، وقسمتها ذات اليمين وذات الشمال. فذلك النظام تابع لحلف بغداد، والثاني مناوئ له ويشن حربا لا هوادة فيها عليه. وكل يغني على ليلاه. وهكذا استمر النظام العربي الرسمي في الانشغال مشغولا بمشكلاته الخاصة، بينما واصل المشروع الصهيوني تقدمه، مستكملا بنيانه بالتمدد والتوسع السكاني والمكاني. ولم تستطع الهياكل والمؤسسات العربية، التي انشئت في نهاية النصف الأول من القرن الماضي، أن تتقدم خطوة واحدة على طريق تحقيق الأماني والآمال المشروعة للشعب العربي. أين نقاط الضعف؟ وكيف يمكن تجاوزها؟ بمعنى آخر، ما الصياغة المنهجية الجديدة التي ينبغي أن تتحقق للعلاقات العربية- العربية؟ الواقع أن هناك جملة من المعوقات الذاتية والموضوعية التي حكمت سيرورة العلاقات العربية- العربية. وللأسف، فإن تلك المعوقات لم تلق الاهتمام اللازم من قبل النخب المحلية، من مفكرين ومثقفين، والذين يتوقع منهم تناول قضايا الأمة الملحة، بالتفكيك والتحليل والمعالجة. أولى هذه المعطيات أن الأقطار العربية، بحكم نشأتها وتطورها التاريخي، ليست متجانسة من حيث إمكاناتها وثقلها الاقتصادي والسكاني والعمراني والثقافي. فقد كان لبعض المناطق العربية دور ريادي في صناعة الحضارة الإنسانية منذ فجر التاريخ، واستمر هذا الدور، في حقب متعددة، وحلقات ممتدة، وصولا إلى العصر الحديث. ومما لا شك فيه أن ذلك ترك بصماته واضحة على المستوى الثقافي والحضاري والتنموي في تلك البلدان، وبالتالي على طبيعة الأداء السياسي فيها. وساعد على ذلك أن البلدان التي اعتبرت مراكز رئيسية للنهضة، تمكنت في وقت أبكر، من ذلك الذي أنجزته شقيقاتها، من نيل استقلالها السياسي، وحظيت باعتراف الأسرة الدولية بها كبلدان مستقلة. ومما لا شك فيه أن التفاوت الزمني في الحصول على الاستقلال قد ترك آثاره السلبية على التضامن والتنسيق والتكامل بين الأقطار العربية، فقد جرى تشكيل مؤسسات وهياكل الدولة في الأقطار التي أنجزت استقلالها على أسس محلية، ودون تصور استراتيجي بعيد المدى، يأخذ بعين الاعتبار حقيقة ارتباط هذه البلدان بالوطن العربي. وفي ظل تعدد المراكز، تحقق، باستثناءات نادرة، غياب حقيقي لمركز قيادي فاعل، وأصبح النظام العربي تائها في لجة الأحداث التي تسارعت في المنطقة بخطى حثيثة، جعلت من المستعصى صياغة أي برنامج متماسك ينظم العلاقات بين الحكومات العربية. ولا شك أن استعار الحرب الباردة، ومحاولاتها المحمومة لاستقطاب أكبر عدد من المؤيدين والحلفاء، واتخاذها من منطقتنا ساحة، لصراع عقائدي وسياسي واستراتيجي، فيما بين القوى العظمى، قد ساعد على تمزيق اللحمة بين الأقطار العربية، وقد ساهم ذلك في تأجيج الخلافات بين حكوماتها، حين انقسمت الحكومات العربية في ولاءاتها، باتجاه هذا الفريق أو ذاك. وحين تحقق الاستقلال لمعظم الأقطار العربية، تكشفت حقائق أخرى مريعة، فالحدود السياسية التي رسمها المحتل قبل رحيله، فيما بين هذه الأقطار كانت بمثابة القنابل الموقوتة.. إنها حدود صممت لأغراض خاصة بالمنتصرين بعد الحرب، ولم تضع في الحسبان مصالح أو خيارات السكان المحليين. كانت هناك مناطق ومدن كبرى تخص أقطارا عربية بعينها، تم اقتطاعها منها وأضيفت إلى أقطار أخرى، تبعا لمصالح صناع القرار الكبار، من خارج المكان. ولتكون أسفينا مستقبليا يحول دون تحقيق الوئام والاستقرار والتنسيق والتكامل فيما بين أقطار الأمة. وليس من شك في أن هدف هذه القراءة، ليس التشرنق في تراكمات الماضي، بل فتح بوابات أمل، بإيجاد آليات جديدة، للخروج من المأزق الراهن، الذي تواجهه المنطقة بأسرها. مخرج يعتمد القراءة العلمية، واستخدام الأدوات المعرفية، في التبضيع والتفكيك، من أجل صياغة نظام عربي يجعلنا في القلب من المعادلة الدولية، بصيغة الصناع وليس المستهلكين، لصياغة مستقبل لا تغيب فيه البهجة ولا يرجف فيه الأمل.