حينما تناقش «مفهوم الرأي» وتفنده وتحاول أن تقارب ماهيته، لا تستغرب أن يخرج عليك «مثقف» ويتهم تساؤلك، بأنه ربما كان محاولة للتضييق على حرية الرأي. وإن كان يحسن الظن بك، قال لك إن تساؤلك لا يحتاج كل هذا، فالمفاهيم المصطلح عليها ليست نصا معصوما من الخطأ، و«الرأي» إن قننته بهذه المصطلحات أصبح سجينا لها، وحكمت عليه حينها بالموت البطيء شئت ذلك أم لم تشأ..! ولكن هل من المنطق أن تتعاطى مع مفردة «كالرأي» لا تعرف لها معنى ومفهوما؟! ثانيا أو ليس المفاهيم والمصطلحات هي من أسست لقيام العلوم الإنسانية ومن ثم الحضارات، وخلقت مناخا صحيا لتوليد الآراء، ومن ثم جعلت لها قيمة حقيقية وليست مجرد سفسطة؟ فهناك آراء ممنهجة ولها قيمة علمية، وهناك آراء مجردة ليس لها قيمة علمية، وهي أقرب إلى السفسطة منها إلى الرأي الحقيقي، وبالتالي تأثيرها قد لا يتجاوز قائلها. لكن لماذا كل هذا الحديث والتأكيد على مفهوم الرأي وماهيته؟، لأن الآراء الحقيقية، ليست مجرد تساؤلات، بل هي قناعة واعتقاد مبني على معطى موضوعي تفاعل معه العقل بأدوات ومنهج، لينتج رأيه بعد ذلك، على أساس اعتقاد منه على صوابية رأيه، وليست مجرد انطباع ومزاج ذاتي، لأنه هنا يصدر حكم على الموضوع أو الفكرة التي فندها رأيه، لهذا كان لتحديد مفهوم الرأي قيمة وحاجة يتطلبها طبيعة البحث والتساؤل المطروح. ومن هنا، يكون لكل من أعطى رأيا في مسألة فكرية أو فلسفية، أو اعتقادية يؤمن بها مجتمع، سواء كانت عقيدة دينية أو فلسفة وضعية أو فكرة ما، أن يبرهن على حجية رأيه. وهذا لا يعني التضييق على ثقافة السؤال أو مشروعيته، فهناك أسئلة تفتح آفاقا جديدة نحو تشكل الآراء.. ألم يقل الإمام علي «مفتاح العلم السؤال». ولكن السؤال استفهام، أي بحث عن جواب وليس حكما كما هو طبيعية الرأي، فنقض الحكم يحتاج إلى دليل عقلي مبني على أدوات ومنهج. وفي ظني هذا ما نحتاجه اليوم في فضائنا الثقافي، ويجب أن نعمل به؛ لننهض بعملية صناعة الرأي، لتنعكس هذه العملية وعيا حقيقيا على حراكنا الفكري، لأن الرأي الزائف ينتج وعيا زائفا، ويجعلنا ندعي ما لا نملك، وبدل أن يوجد ذلك الوعي نافذة حضارية نحو المستقبل، يجعلنا نعود لنقطة البدء والسجال العقيم. وللأسف، هناك من الشباب المثقف وغير الشباب، من يطرح تساؤلات في بعض القضايا الفكرية والاعتقادية ويلبسها لباس الرأي والحكم، ويطالب المجتمع بعد ذلك أن يحترم رأيه.!، ويتضايق حينما يقابل من المجتمع بعكس ما توقع، ليرمي بعد ذلك المجتمع وثقافته، بكل أبيات شعراء الهجاء من العصر الجاهلي وحتى عصر ذلك المثقف.! وهي إن أحسنا الظن بهم، مجرد تساؤلات، لا ترقى لمستوى الرأي، حتى يقاتل عنها أصحابها كل هذا القتال، ويقدموها وكأنها فتح وإنجاز فكري يجب أن يحتضن من المجتمع، ويلقى الاحترام والتقدير، بدلا من الوقوف ضده وإصدار الأحكام الرافضة له. لا أريد أن أحكم بأن هذا الرأي الذي يخلق عادة وعيا ملازما له ويحمل نفس صفاته، ربما كان السمة الغالبة على صناعة الرأي في المجتمعات العربية، وإن حالة الزيف إن جاز لنا أن نقول ذلك، باتت تشكل أولى العقبات، التي تقف في سبيل النهوض بحركة أي تجديد للفكر، والمجتمعات التي تنطلق منها؛ وذلك بسبب حالة العطل التي تعانيها صناعة الرأي في تلك المجتمعات، والتماهي مع تلك الحالة من بعض المشتغلين في صناعة الرأي، سواء كان ذلك التماهي عن قصد أم في غفلة منهم.