شهدت الايام الاخيرة توتراً كبيراً بين الجارين روسياوتركيا بسبب مواقفهما المتباينة من القضية السورية. وتصاعد الموقف اكثر باسقاط الطائرة الحربية الروسية. وهذا ما عقد الوضع بين البلدين وبالتأكيد فان العلاقات الدبلوماسية والاقتصادية ستتأثر بهذه الازمة. ولكن هل يستطيع البلدان الاستغناء عن بعضهما البعض؟. في الحرب الباردة كانت الصواريخ الامريكية منصوبة في تركيا على الحدود مع روسيا وكانت صادرات الغاز الروسية تدفئ تركيا في الوقت ذاته. الحقيقة ان تركيا عميل يصعب على موسكو التخلي عنه، فبينما تخفض اوروبا من استهلاكها للطاقة الاحفورية تشهد تركيا زيادة كبيرة بالطلب على هذه الطاقة. فعلى سبيل المثال تضاعف طلب تركيا على الغاز في آخر عشر سنوات بينما انخفض طلب كل من المانيا وفرنسا وايطاليا وبريطانيا بحوالي 20% لنفس الفترة. واما استهلاك الطاقة بشكل عام فلقد ارتفع استهلاك تركيا للطاقة بحوالي 50% خلال العشر السنوات الاخيرة. واما اسبانيا وفرنسا والمانيا وهولندا فلقد انخفض استهلاكها للطاقة بمعدل 10% واما ايطاليا وبريطانيا فلقد انخفض استهلاكهما بحوالي 20% لنفس الفترة. وهذا يجعل لتركيا وضعا مميزا ورئيسا في اوروبا يصعب على موسكو التخلي عنه. هذا عدا عن موقعها الاستراتيجي في الوسط بين روسياوجنوب غرب اوروبا. وتعتمد تركيا حالياً على الغاز الطبيعي في توليد 35% من حاجتها للطاقة و27% على النفط و29% على الفحم. ولهذا اصبحت روسيا اكبر شريك تجاري لتركيا بعد عام 2008م حيث حلت محل المانيا وذلك بسبب الكميات الكبيرة من الغاز الطبيعي التي تصدرها روسيالتركيا. ولقد رفعت تركيا استهلاكها للطاقة في ظل الطفرة الاقتصادية التي تشهدها البلاد بوتيرة عالية ومتسارعة. والجدير بالذكر ان معظم حاجة تركيا للنفط والغاز وهما اكبر مصدرين للطاقة في تركيا يتم توفيرهما بالاستيراد من الدول المجاورة واهمها روسياوايران التي ينمو الاعتماد عليها مع الوقت. وتستورد تركيا حوالي 55% من حاجتها من النفط من العراقوايران. واما الغاز فلقد استوردت تركيا العام الماضي حوالي 30 بليون متر مكعب من الغاز من روسيا عبر خط السيل الازرق الذي يعبر البحر الاسود وخط البلقان القادم من اوكرانيا. ولقد بلغت حاجة تركيا في العام الماضي من الغاز حوالي 50 بليون متر مكعب اي ان موسكو قد صدرت حوالي 60% من حاجة تركيا للغاز. واما العشرون بليون متر مكعب من الغاز الباقية فلقد استوردتها تركيا عبر خط انابيب تبريز الايراني وانابيب خط جنوب القوقاز الاذربيجانى. ومع التصعيد الروسي مع اوكرانيا تفقد موسكو شريكاً رئيسياً في نقل الغاز وهي اوكرانيا وهو ما يجعلها تبحث عن شريك آخر لايصال الغاز الى اوروبا. فكرت روسيا بانشاء خط السيل الجنوبي لايصال حوالي 65 بليون متر مكعب من الغاز سنوياً الى قلب اوروبا عبر البحر الاسود ومن ثم بلغاريا فاليونان فايطاليا. وكان مشروعا في غاية الاهمية لروسيا لانه يؤمن لها زبائن جددا في الغرب الاوروبي. ولكن المشروع تعرض لمعارضة قوية من اللجنة الأوروبية وعلى الرغم من ذلك وقعت شركة "غاز بروم" اتفاقيات مع كافة الدول المعنية بتنفيذ المشروع بما في ذلك بلغاريا التي كان يجب أن يمر بها خط الانابيب من جانب البحر. ولكن الحكومة البلغارية وبعد تعرضها لضغوط قوية من الجانب الأوروبي ومن الولاياتالمتحدة، سحبت موافقتها مما أجبر روسيا على إلغاء المشروع. ولقد أعلن بوتين قبل عام عن إلغاء مشروع خط أنابيب "السيل الجنوبي" الذي يمر ببلغاريا، وأعلن الرئيس الروسي عن البدء بمشروع "السيل التركي" بطاقة تصل الى 64 مليار متر مكعب تشتري منها تركيا 14 مليار متر مكعب سنوياً ويعبر الباقي تركيا الى اليونان ومن ثم الى ايطاليا، وبهذا تعمل تركيا كناقل للغاز الروسي. لا شك ان مشروع السيل التركى سيجعل الغاز الروسي أرخص لتركيا، إضافة إلى خلق فرص عمل للاتراك، وجذبه الأموال إليها، وبذلك ستلعب تركيا دور موزع الغاز إلى الدول الأوروبية المجاورة وهو الدور الذي كانت تلعبه اوكرانيا. وبذلك تستطيع انقرة توفير ملايين الدولارات كأجرة لمرور هذه الانابيب باراضيها وبالتالي الكل مستفيد روسياوتركيا. سيتأثر بلا شك مشروع السيل التركي بالمشاكل الحالية بين تركياوروسيا ولكن انفقت موسكو حالياً حوالي 2 مليار دولار على الانشاءات المبدئية لهذا المشروع. وبالتالي فان اي الغاء لهذا المشروع يعني خسارة قيمة لروسيا. بالاضافة الى معضلة وجود دولة تسمح للغاز الروسي بالمرور من ارضيها، فروسيا تعاني الامرين من اوكرانيا وصدمت برفض بلغاريا مشروع السيل الجنوبي. وبالتالي فالواقع يحتم على كل من تركياوروسيا التمسك ببعضهما البعض رغم المواقف السياسية المختلفة. واما في مجال الطاقة النووية فتأمل تركيا تقليل اعتمادها على استيراد الغاز والفحم لتوليد الكهرباء وذلك بالتخطيط لانتاج 20% من حاجتها من الكهرباء بواسطة المفاعلات النووية. ولكن حتى هذه السياسة قد عمقت اعتماد تركيا على روسيا، لان المفاعلات النووية ستشيدها الشركات الروسية. سيكلف بناء المحطة النووية في تركيا حوالي 20 مليار دولار انفقت منها الشركة الروسية المشغلة حوالي 3 مليارات دولار. واما الوقود من اليوارنيوم الروسي فسيكلف حوالي 60 مليار دولار وهو كمية الاستهلاك لحوالي 15 سنة فقط. وستكون قدرة المحطة النووية في تركيا توليد حوالي 5000 ميغاوات والغريب ان شركة روزاتوم الروسية تشارك بملكية هذه المحطة؟. لان المحطة يجري تأسيسها بنظام بناء-تشغيل-امتلاك. وهي لن تكلف الحكومة التركية شيئا، اذ ان الشركة المشغلة والمملوكة للحكومة الروسية ستأخذ على عاتقها مهمات التخطيط والبناء والخدمة والتشغيل. ومن المعلوم أن الشركات الغربية تستطيع تنفيذ المشروع لكن بأثمان مرتفعة وشروط قاسية. تستورد تركيا حوالي 65% من حاجتها من الطاقة (نفط وغاز وفحم) من روسيا وهي ثاني اكبر مستورد اوروبي للطاقة من روسيا بعد المانيا. ويمكن ان تستغني تركيا عن الغاز الروسي بعد سنوات باستبداله بالغاز الكردي والايراني وغاز آسيا الوسطى وهم خيارات لديهم تعقيداتهم المختلفة السياسية وحتى اللوجيستية من بنية تحتية وغيرها. ولكن حالياً ليس من مصلحة تركيا التضحية بمصالحها الاقتصادية المهمة مع روسيا وليس من مصلحة روسيا خسارة شريك كبير واستراتيجي مثل تركيا. ولا ننسى ان الاقتصاد التركي رقم 18 على مستوى العالم من حيث الحجم وهو بأمس الحاجة للطاقة لتأمين المزيد من النمو ولذلك فان امدادات الطاقة الروسية لتركيا قد تكون الابن الذي يبقي العلاقات الروسية التركية دافئة رغم برودة الطقس. معظم جيران تركيا مصدرون للطاقة ويملكون مخزونات كبيرة منها وهذا يجعل انقرة المعدمة من مصادر الطاقة بامس الحاجة لعمل توازنات رغم تعقيدات المشهد السياسي. فهي تختلف مع روسيا منذ زمن الحرب الباردة ولكنها تتعامل معها بقانون المصالح المشتركة. وكانت اول شحنة غاز روسي تصل الى تركيا في عام 1987م اي خلال الحرب الباردة والصواريخ العابرة للقارات. وفي الختام، بانتهاء العام الجاري تكون كميات الغاز الروسي المصدرة لتركيا خلال ال28 سنة الماضية قد بلغت حوالي 380 بليون متر مكعب دفعت فيها تركيا عشرات المليارات من الدولارات. وقد تصل مبيعات شركة غازبروم من الغاز لتركيا هذا العام فقط حوالي 9 مليارات دولار. ويجب ان نلاحظ ان ايران تعد اكبر منافس لروسيا في تجارة الغاز الطبيعي ولديها ثاني اكبر احتياطي للغاز في العالم بعد روسيا. ويعتبر قطاع الغاز الايراني الاقل استغلالا والاقل تطوراً بين الدول الرئيسية المصدرة للغاز. وبعد رفع العقوبات الدولية عنها، تسعى ايران وبكافة السبل لايجاد عملاء لغازها بحجم تركيا والهند والصين واوروبا. وعليه يمكن القول ان روسيا لن يكون بوسعها التفريط بتركيا من اجل ايران او سوريا.